واشنطن تريد تدمير الدور الإيراني فهل ينجو لبنان؟
د. وفيق إبراهيم
المتمعّنُ في السياسة الأميركية الحالية التي تضربُ على أكثر من جبهة، يعتقد أننا في مرحلة انتهاء حرب انتصرت فيها واشنطن على العالم بأسره.. ولأنها ليست على هذا النحو، فيمكننا الجزمُ بأنها تدافع عن مكاسب تملكها وتخشى عليها من الانهيار تحت وطأة صعود قوى أخرى.
إيران واحدة من خمس دول تمكّنت من تحقيق وضعيات متقدّمة عالمياً أو إقليمياً وهي ألمانيا واليابان اقتصادياً والصين جيوبولتيكياً، يجمع بين الانتشار السياسي والاقتصادي مع مراكمة خبرات عسكرية، وروسيا العائدة على صهوة قوة عسكرية غير تقليدية تنافس نظيرتها الأميركية في هذا المجال بالذات وفقط.. أما لجهة إيران فأنجزت وضعية «سياسية» لافتة من غير أنّ تطلق رصاصة أو تقذف صاروخاً بالستياً أو تهدّد بالنووي أو تخوض حرباً.. بمعنى أنّ كل ما يتهمها الأميركيون به ليس حقيقياً بقدر ما ينتمي إلى دائرة الافتراضات أو الإجهاض المسبق لقوة قيد التكوين.. هناك حرب شنها صدام حسين عليها في الثمانينيات.. احتوتها وأعادت الجيش العراقي إلى الحدود.. ولم تكملها.. لأنها كانت حرباً من «صدام» بتوجيه أميركي ـ سعودي لمنع تسلّل النفوذ السياسي الإيراني إلى شيعة العراق، ومنهم إلى الخليج.
ما هي الخطورة الإيرانية التي تتحسسُ منها واشنطن وتدفعها لوضع خطة لإسقاط النظام الإيراني بالتعاون مع الخليج السعودي وبعض الدول العربية وإسرائيل؟ إنها بالطبع الحركة الإيرانية الفاعلة في قلب الجيوبولتيك الأميركي من لبنان إلى أفغانستان، بما يجمع شرقاً أوسط ومشرقاً عربياً وعالماً إسلامياً.. وهذا امتداد محوري للجيوبولتيك الأميركي يحتوي على نفط وغاز ودول متخلّفة تستهلك فقط ولا تنتج، مع مواقع استراتيجية تحُّدُ من تقدّم القوى المنافسة.
..يتبيّن أنّ الخطأ الإيراني المحوري يقع هنا.. أيّ من حركته في هذا الجيوبولتيك.. ولأن الاتفاق النووي مع إيران لم يؤدِ إلى الأهداف السياسية المرجوة، وأقلها إمكانية تقارب أميركي ـ إيراني.. وجدت «واشنطن ترامب» أنّ الاتفاق، أمّنَ لإيران اقتصاداً منتجاً مع استعادة بعض من أموالها المحتجزة في الغرب.. سامحاً بحركة سياسية لها هي الأكبر من نوعها في القرن الحادي والعشرين.. والدليل نجاحها في نسج علاقات مع حزب الله لبنان والدولة السورية والعراق واليمن مع وجود فاعل في افغانستان وباكستان والهند.. والارتباط بما يشبه التحالف العسكري والاقتصادي مع روسيا والصين. إنّ كل هذا التقدم الإيراني لم يحدث على قاعدة شنّ حروب إيرانية مباشرة على أحد.. حلفاء إيران في لبنان قاوموا «إسرائيل» محرّرين جنوب بلادهم على قاعدة فرض خطوط حمر التزمت بها «إسرائيل» للمرة الأولى منذ سطوها على فلسطين المحتلة.
وحلفاء طهران في سورية مع مستشارين إيرانيين وتنظيمات شعبية متحالفة معهم من العراق، بالإضافة إلى حزب الله.. والدور الروسي الضخم.. أنقذوا سورية. والدعم الإيراني للحشد الشعبي في العراق على مستويات التمويل والتسليح والاستشارة هزم داعش معيداً تركيب دولة تنحو إلى أنّ تكون ذات دور إقليمي في مقبل الأيام.
كما أنّ الدعم الإيراني للحوثيين في اليمن فرمل الدور السعودي في صنعاء واضعاً المنطقة البحرية الممتدة من مضيق هرمز قبالة عُمان وإيران حتى باب المندب قبالة الصومال وجيبوتي واليمن في وضع تقاسم النفوذ بين الإيرانيين والأميركيين. وهكذا أضحى لإيران دور في افغانستان من طريق دعم «الهزآرة» أيّ الأقلية الشيعية، وكذلك بالشيعة في باكستان والهند والبحرين والسعودية..
أما أسباب التركيز الإيراني على الشيعة فسببهُ الاستعداد الأميركي ـ الأوروبي ـ الخليجي ـ الإسرائيلي الذي ناصب طهران عداء قوياً منذ نجاح ثورتها الإسلامية في 1979، متسربلاً بشكل حروب حيناً وحصار اقتصادي لم يتوقف لحظة حيناً آخر. فخرجت إيران إلى الإقليم بطرح «إسلامي» عام معادٍ للأميركيين والإسرائيليين على قاعدة تجميع «الممكن» من العالم الإسلامي حول قضية فلسطين التي باعها السادات مستسلماً لإسرائيل ومدمراً النظام العربي العام.
حاولت طهران تعبئة هذا الفراغ «إسلامياً»، فتلقت الحرب الأولى من صدام.. هذه الحرب التي أعاقت حركتها عقداً من الزمن.. وسمحت لقوى الخليج ومكاتب التخطيط الأميركية والأوروبية، بإعداد أكبر حرب طائفية توهّم الكثيرون أنها حقيقية لفرض دقتها.. مئات وسائل الإعلام المحترفة، أخذت تركز على كل ما يضخّم من عيارات الفتنة السنية ـ الشيعية. حتى توهّم البعض أنها قاب قوسين أدنى من الانفجار. وتسببت بتعطيل الحركة الإيرانية التي وجدت نفسها مضطرة إلى الاحتماء بالشيعة في المشرق العربي بدءاً من اليمن الزيدي إلى العراق ذي الغالبية الشيعية مروراً بسورية «المدنية» والمعادية للحلف الأميركي ـ الإسرائيلي ـ الخليجي وصولاً إلى حزب الله الشيعي في لبنان، لكن مشروعه يفيد كل اللبنانيين.
هذه هي الأسباب العميقة للاستهداف الأميركي لطهران التي تمتلك صواريخ بالستية لم تستعملها ومشروعاً نووياً تخلّت عنه.. ولم تعتدِ على واحد من البلدان المجاورة لها منذ الفتوحات الإسلامية باستثناء الحروب العثمانية، الصفوية التي دارت على أرض العراق، من دون أن يكون لبغداد أيّ دور.. إنه الاحتلال العثماني لها الذي جعلها قاعدة لغزو إيران.
هناك إذاً مصلحة أميركية بتدمير الدور السياسي الإيراني وليس لامتلاكها إمكانات عسكرية، وهناك أيضاً إصرار إسرائيلي، لأن إيران هي البلد الإسلامي الوحيد الذي يحمل مشروع تحرير فلسطين من البحر إلى النهر. هذا إلى جانب طموحات سعودية ـ خليجية بتدميرها، لحماية أنظمتها من النموذج الإيراني المتقدّم عليها بانفتاحه على العالم.
لذلك فإن الحركة الأميركية تركّزُ هجماتها على «المركز» الإيراني مع إعطاء جرعات سامّة لحلفاء إيران في المنطقة.. خصوصاً بعد الانتخابات النيابية في لبنان التي أكدت نتائجها استحالة تشكيل سلطاته الدستورية من دون موافقة حزب الله، بما يؤكد بدء خطة أميركية ـ سعودية، لإعادة تحشيد كل القوى السياسية والنيابية المنتمية إلى حركة 14 آذار المتشققة.. للتدليل فقط على انطلاق هذه الخطة حدوث ثلاث حركات متتالية: أولاً زيارة مسؤول سعودي دبلوماسي قائد القوات سمير جعجع في دارته في غدراس.. الثانية زيارة جعجع لرئيس الحكومة سعد الحريري بعد انقطاع أخذ شكل العداوة لمدة طويلة من الزمن.. أما الثالثة فترجمت طي صفحة الخلاف بين الفريقين بعشاء رمضاني في السفارة السعودية جمع أيضاً بعض النواب الموالين.. وللتمويه فقط جرت دعوة وزير المال المحسوب على الرئيس بري. وللتعمية أيضاً فقد لبّى الوزير خليل الدعوة، هناك أيضاً مؤشرات أخرى على استهداف لبنان.. ومنها زيارات سرية مكثفة لنواب سنّة أخترقوا لوائح حزب المستقبل السعودي الهوى. بالإضافة إلى وعود أميركية ـ سعودية لبعض النواب بتوزيرهم أو بترئيسهم للحكومة في مراحل تلي «تدمير حزب الله» سياسياً.
أما المحاولات مع الوزير وليد جنبلاط فعلى قدم وساق، ومحورها وعود بحصرية دوره الدرزي مع تموضع كبير له وطنياً، كذلك تجري الأمور مع الوزير جبران باسيل الذي يسمعُ عزفاً سعودياً أميركياً مؤيداً لطموحاته الرئاسية.
لكن المثير للقلق هو أنّ واشنطن تعرف أنّ حصار حزب الله «لبنانياً» لا يكفي لإنتاج حكومة تعاديه وتعزله من الناحية التقنية. لذلك فهناك مَن يعتقد أنّ الرهان الأميركي ـ السعودي يستند إلى التحضير المسبق لوضعية لبنانية متهيئة للاستفادة من الانهيار الاقتصادي الإيراني المنصوب أميركياً.. فما أنّ تصاب الدولة الإيرانية بالإفلاس والتراجع بسبب العقوبات الأميركية حتى يصاب حلفاؤها بالتراجع والضمور في الأدوار في مناطق نفوذهم.. وأهمها حالياً بالنسبة لواشنطن وتل أبيب والرياض.. الساحة اللبنانية لارتباطها بالميدان السوري والحدود مع فلسطين.
ماذا يمكن استنتاجه؟
دفع إيران إلى الانهيار الاقتصادي يؤدي إلى انهيار حزب الله الهدف الرئيسي للحركة الأميركية. باعتبار أنّ العراق بلد غني يستطيع تدبّر أمره داخلياً، لجهة اليمنيين فقد اعتادوا على الشقاء.. أما حزب الله فيحتاج إلى الدعم المادي دائماً لأنه يؤدي دوراً على مساحة كبيرة من لبنان إلى العراق واستشارياً إلى اليمن.
فهل يدفع هذا الحلف لبنان إلى الانفجار؟
ترتبط الإجابة بمسألتين: الأولى مدى نجاح الحصار على إيران، والثانية قدرة حزب الله على المقاومة التي يرى الخبراء أنّ حزباً يناضل في الساحات الداخلية والإقليمية منذ أربعة عقود، لن يعجز عن تدبّر أحواله للاستمرار. وهو الذي عبر مراحل أصعب من الأوضاع الحالية.
بقي أنّ تعي القوى اللبنانية المحسوبة على المحور السعودي أنّ إيران قوة إقليمية إيجابية تلعب في الميدان الإقليمي منذ أربعين عاماً وسط عداء أميركي وسعودي وإسرائيلي. وأنّ حزب الله حقيقة إقليمية ومعطى داخلي يُغني لبنان ولا يُصيبه بالإفقار. ويُضفي عليه قوة في وجه «إسرائيل» الطامعة في البحر والأرض والنفط والغاز.. والمياه.
فهل مَنْ يسمْع؟