الخروج من التبعية والسيادة في القرار الحر

د. رائد المصري

بهدوء… تقوم الطائرات الأميركية بالقصف الوحشي في كامل المنطقة العربية والشرق الأوسط، وتقوم معها الطائرات الصهيونية بقصف سورية واستباحة أجواء لبنان، وبقصف اليمن وبالاعتداء على الشعب الفلسطيني وقتل المدنيين في غزة. فيقول الإعلام الغربي ومعه العُهْر العربي بأنَّ إيران استباحت المنطقة العربية وهي تتدخَّل وتستولي على بلدان عربية تريد احتلالها ووضع اليد عليها. وهي مواضيع طالما أرادوا أن يكون فيها نقاش يعني أنَّ العرب أو بعض العرب ما زالوا غير مستعدِّين لممارسة دورهم السيادي الكامل في كلِّ ما يتَّصل بأمور اقتصاداتهم وحياتهم وثرواتهم ومستقبل الصراع الوجودي الذي يخوضونه مع المستعمرين الإسرائيليين.

لن نَغْرق في التفاصيل كي نستطيع لمَّ الموضوع ونؤشِّر لمدى ولمسار نجاح الانتخابات البرلمانية في لبنان والفوز الكبير لمحور المقاومة، والذي شكَّل احتضاناً لها وحماية من أيِّ خطر خارجي أميركي أو إسرائيلي أو عربي خليجي بأدوات سياسية داخلية، استنفرت اليوم وبدأت تُعِدُّ العُدة لتُعيد للأميركي والإسرائيلي الامتيازات التي خسرها باللُّعبة الديمقراطية الأخيرة، حيث تجسَّدَ ذلك في ضَعْف المناعة تُجاه وضع حزب الله ضمْنَ لوائح الإرهاب والتضييق المالي على أهمِّ وأكبر كوادره من السياسيين، والبدء بالحديث عن الأفضلية للشخصيات السياسية المقاومة التي لا تستفزُّ الأميركي والخليجي، وقيام حزب القوات اللبنانية باستعراض أسماء وزارية يُقيِّم فيها دورهم في الحكومة وفي إمكان توزيرهم من عدمه، وإعطائهم سجلات عدلية ناصعة البياض. ومِيزة هذا التفاضل هو الضَّعف من قبل قوى المقاومة التي تُفرِّط في كلِّ مرَّة بحقوقها الوطنية والسياسية، وبحقوق حلفائها خدمة للحالة المذهبية التي يُمكن أن يلعب عليها الخارج ويضيِّق الخناق على حزب الله. وهو أمرٌ اعتاد عليه اللبنانيون وباتَ مكشوفاً وممجوجاً ولا يَلقى رواجاً بالمطلق…

فالإمعان في تكريس الرئيس الحريري كرئيس لحكومة لبنان الأوْحد وكحالة وحيدة مفردة في أدبيات العمل السياسي اللبناني، يُعطيه المجال والهامش أكثر في فتح باب السمسرات السياسية القديمة الجديدة، ويُشرِّع ويُشرعِن معه التدخُّل الخارجي العربي والغربي، ويُعطي المُسوِّغ والحجَّة لإعادة ترتيب أوراقه السياسية بما يخدم أعداء المقاومة ولِمن يريد تصفيتها والانتهاء منها…

فبعدَ صدور نتائج الانتخابات البرلمانية والفوز السَّاحق لقوى المقاومة ولحلفاء حزب الله واختراق الجدار المذهبي الذي أقامته أميركا و»إسرائيل» بوجه المقاومة، عمَدتْ وفوراً بالتعاون مع دول خليجية الى إطلاق لوائح بأسماء شخصيات سياسية وحزبية تنالُ من المقاومة وتقوِّض حركتهم المالية، رغم عدم جدواها وفاعليتها، ورغم ضَعْف مناعة الرئيس المكلَّف بتشكيل الحكومة بالردِّ أو بالإحجام عن هذه الأفعال، فإن حزب الله وحلفاء المقاومة لم يناوروا بتاتاً في التلويح بأنَّه يُمكن أن نلجأ الى بديلٍ لرئاسة الحكومة، أقلَّه حتى لا يكسب هذا الحلف ما خسره في اللُعبة الديمقراطية وتُعاد الكَرَّة من جديد في اصطفافات واستقطابات تدفع ثمنها قوى حليفة ويتمُّ الاستفراد بحزب الله ويوضع لبنان أمام مخاطر جدِّية وملموسة…

لا نستطيع أن نُخرج لبنان من سطوة الاستبداد الخارجي العربي والغربي، أو من سطوة الاستبداد الداخلي المتمثِّل في إبقاء الستاتيكو للحالة السياسية، كما هي، من دون رفد الحكومة الجديدة والتي هي قيدَ التشكُّل بمستلزمات العناصر القومية والوطنية المقاوِمة، لإقامة سدٍّ وجدار متين بوجه المشروع السياسي للحريرية الضعيفة، لكنَّها باتت مزخَّمة بحركة مُتْقنة بلعبةٍ فاشية يقودُها حزب القوات اللبنانية، وهو الذي يتقدَّم الصفَّ الأول وبدأ يخوض المعارك الأميركية في لبنان بتمويل خليجي. وباتَ يُشكِّل رأس الحربة في المشروع السياسي للحكومة اللبنانية، إذا لم يتم استدراك الأمور ورفد الحكومة بوزراء يشكِّلون قلقاً مستداماً، حتى لا ينحرف الخطاب المذهبي ولا الطائفي الى الوُجهة التي تريدها أميركا و»إسرائيل». ونحن على خطِّ تماس ساخن في المنطقة العربية وفي سورية، وهو ما يتطلَّب مواجهة مباشرة كما في المجلس النيابي كذلك في الحكومة لنزع أيِّ تبعية سياسية لقوى لا زالت تُراهن على الخارج، ولبنان على أبواب إقفال هذه المِلفات بتثبيت سيادته على أرضه ومياهه ونفطه وغازه، فكيف يُمكن أن نستأمِن منقوصي السيادة والمُرتَهَنين منهم على مستقبل البلد وثرواته وخياراته السياسية؟

أسئلة تُوجِب البحث والتمعُّن فيها سريعاً، حيث تشكِّل سورية مثالاً حيّاً بعد محاولة إسقاطها وتقسيمها والشروط والتهديدات الأميركية التي يَسوقُها ترامب لمنع الدولة العربية السورية من استكمال تنظيف الجنوب السوري من البؤَر الإرهابية. وهو بالمناسبة حقٌّ سيادي خالص مكرَّس أممياً ومُجمَعاً عليه دولياً، لكن المنطق السِّيادي يتطلَّب قراراً وممارسة وتصميماً وعزماً وإرادة وتضحيات كبرى وعقلاً وفكراً مؤدلجين، وكلُّها وَصْفَات وَصِفَات لا تجعل القرار الأميركي ومن خلفه الإسرائيلي، قدراً على الشعوب حتى تستكين له. إنها الحالة السيادية الوحيدة التي تحافظ على المنجزات والتضحيات المتحقَّقة، وليس كالحالة السيادية لشراذم ما تبقَّى من 14 آذار الذين يتباكون اليوم على حكمٍ سَطُوا عليه خِلسةً منذ عام 2005 وضاع منهم اليوم.

أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى