«الرمزية في التكوين وإعادة التكوين»… محاضرة للبروفسور جان داود

تحت عنوان «الرمزية في التكوين وإعادة التكوين»، قدّم العميد البروفسور جان داود محاضرة في المؤتمر الذي عقد خلال أيار الحالي في المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة البنانية، حول «الأب الرمزي بين المنع والتحوّل». وذلك بحضور عميد المعهد البروفسور محمد محسن، ولفيف من الأساتذة والطلاب.

بعد النشيدين اللبناني والجامعة، قدّم العميد داود محاضرته التي حدّد فيها الرمز وتكوينه واحتمال مرضية هذا التكوين، مؤكداً ضرورة منع تحوّل الرموز إلى تابوات تأسر السلوك والحياة وتقيّدهما وتبرمجهما. مشدّداً على ضرورة إعادة النظر في رموز ومصطلحات كثيرة، وفي المسألة الأوديبية التي تبني وتبنى على إخضاع الإنسان إلى القدر: «فالرمزية في عقدة أوديب مطبوعة بالقدرية ومبنيّة، بوعي أو من دون وعي، عليها. وكأننا نقول إن الإنسان محكوم بأن يكون ضحية مأسوية للقدر». مشيراً إلى أن أبرز ما يعمل عليه في منهجه، التربية على المواجهة والتدريب على الخروج من من فخ الخوف الذي هو في صلب وأساس مشكلات الإنسان. وقال: كان على المنظّرين أن يتوقفوا بتمعّن عند مسألة الخوف وآثارها السلبية. وليكن معروفاً: مواجهة الخوف لا تتم بالهروب. والخوف في مأساة أوديب، عامل فاعل وحاسم، وهو الذي أدى بالوالدين إلى الهروب من القدر بالتخلص من ولدهما وقتله.

ودعا داود إلى تصحيح المقاربات وعدم ترك الرموز في حال تلوث، وإلا باتت خارجة على الغاية من إيجادها. محذّراً من التهيئة النفسية المرضية التي تحملها بعض الرموز والطروحات والممارسات. داعياً إلى التحصين ضدها. وطَرَحَ مدخلاً رئيساً لكل مساعدة نفسية ما يدعوه: اللعب والفن والإبداعية حسبما يطرح في منهجه الكلّي أو الصوفية المدنية.

وأعلن البروفسور داود رفضه الخصاء بكل أشكاله وبشكل رئيس منه الخصاء المعرفي الذي تحمله بشكل خفي مأساة أوديب. وقال: أنا ضد الخصاء بكل أشكاله وبشكل رئيس ضد الخصاء المعرفي. ألا تعتقدون أنكم في مقاربتكم لأوديب جعلتم، ومن دون حق، معرفة الإنسان وإدراكه أسرار الآلهة في أساس السلوك المؤدي إلى المأساة والخطأ؟ وبالتالي كيف لعلم أن يترك مقارباته العلاجية تحت سقف القدرية والعقاب في عقر الوثنية؟

ودعا أهل علم النفس ومنظريه إلى إعادة نظر في المسألة الأوديبية، مؤكداً أن علم النفس سيكون أقل غباء أو أكثر ذكاء عندما يعتبر أن المسماة لعنة التي حلت بأوديب مغروسة جينياً بتراكم نفسي عابر للأجيال، فيعزز بذلك علمانية موقعه، بدلاً من الخضوع إلى القدرية، علماً أن تبنّي هذا الطرح لن يكون كافياً ليزيل عن عقدة أوديب شوائب المقاربة التي تحمل.

وحمّل داود المعرفة المفخّخة، المشوّهة، والمشكوك في مصادرها مسؤولية مآسي البشر: «لو لم يزعم العرّاف الساحر أنه يعرف، ولو لم يزعم أن الابن المنتظر لملك طيبة سيقتل والده ثمّ سيتزوج والدته، لما كان الوالدان الملك والملكة ليقرّرا قتل ولدهما. من ائتمن العراف على معرفته تلك؟ ومن أين أتى بها؟ وما مصداقيتها؟ وإلى أي مدى يمكن أن يكون قد لفق تلك المعرفة من منطلق خاص به ولغاية خاصة؟».

ورفض داود الإغراق في غسل الأدمغة، وقال: «هناك نوع من التآمر على الإنسان يحصل بالصمت والخضوع إلى ما يشبه التشريع غير المعلن للقتل قتل أوديب الطفل في أسطورة ومأساة أوديب هروباً من اللعنة والقدرية».

وأولى أهمية قصوى لضرورة التمرّد على التنميط وعدم السقوط في فخ الإسقاط العشوائي والتبنّي المطلق للنظريات. «دعونا في الشرق نتكلم على الجانب الإيجابي للعباءة الأبوية، وهنا نسمح للطفل أن يلعب مع العباءة ويرتديها في حلم أن يصبح بحجم وقوة صاحبها أو برغبة في أن يتخطى تلك القوة لا مانع… وهنا تمتزج العباءة بصورة الأب كحضانة وحماية ولنا طرح حتى في مسالة الحضانة لا يسمح الوقت اليوم بإعلانه … فلا يكون الأب هو الذي يمتلك ما يعتبره علم النفس منافع، إنما تكون عباءته رمز للحماية والنضح الإنساني، رمز للحضانة الإيجابية وصاحبة مسؤولية بدلاً من افتراضه صاحب الحق والملك والسلطة…».

وأكد أن على النفسانيين اليوم أن يركّزوا في أبحاثهم عن الأب الرمزي في الغرق والاستغراق في البدائل الرقمية. واقترح أن يكون المؤتمر المقبل تحت عنوان «الأب الرمزيّ في زمن الرقميات».

وخاطب داود المعالجين النفسيين والمؤتمرين والطلاب بالقول: «العلوم النفسية سوق يروج فيها كل لثقافته أو معتقده أو فرضياته أو منتجه… فانتبهوا إلى الرموز وصنميتها الممكنة، والتحجر في مقاربتها، وأنانية آلهتها الوثنية الأسطورية التطلع والاصطفاف في الشكل الفارغ من الجوهر. نعم، إننا في زمن الوثنية الجديدة. وللقدر الجديد في هذه الوثنية عناوين في امتلاكه للنفوس والعقول وفي زعم محاربته للتسلط على العقول القدر الجديد يأخذ مكاناً حتى في مجالات المعرفة انتبهوا بشكل رئيس من عناوين يريد البعض أن تدور حياتكم في فلكها، ومن أخطرها: المال والجنس، والأخطر في الخلفيات الثقافية السائدة اليوم حيث المال سلطة، والمال من أجل الجنس والجنس من أجل المال».

وختم داود مخاطباً الباحثين: «لا توصدوا الأبواب، افتحوا الملاعب والساحات ومساحات اللعب والفنون والإبداعية، إنها المساحات الفعلية للحرية والحياة. ويبقى اللعب المقرون بالإبداعية والمقرون بالصوفية نافذة إلى الخلاص والتحرر، والطريق إلى الصفاء. تذكر أيها الصديق: طالما أنك تلعب، فاللعبة لم تنته. وأنت قادر على تغيير النتائج بالإبداعية. وطالما أنك تلعب فلن تكون ضحية، وإن ذهبت إلى خسارة فلن تكون خاسراً لأنك ستعود إلى اللعب. واحذر من أن يقنعك قائل: لأنك ذهبت إلى اللعب جعلت نفسك معرّضاً لخسارة أو عرضة أن تكون ضحية».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى