حفاظاً على مستقبلها…
إنّما اللغة مظهر من مظاهر الابتكار في مجموع الأمّة، أو ذاتها العامّة، فإذا هجعت قوّة الابتكار توقفت اللغة عن مسيرها، و في الوقوف التقهقر، و في التقهقر الموت و الاندثار..
فمستقبل اللغة العربية يتوقف على مستقبل الفكر المبدع الكائن ـ أو غير الكائن ـ في مجموع الأمم التي تتكلم اللغة العربية. فإذا كان ذلك الفكر موجوداً كان مستقبل اللغة عظيماً كماضيها، و إن كان غير موجود فمستقبلها سيكون كحاضر شقيقتها السريانيّة والعبرانيّة.
ففي الجاهلية كان الشاعر يتأهب لأن العرب كانوا في حالة التأهب، و كان ينمو ويتمدد أيام المخضرمين لأن العرب كانوا في حالة النمو و التمدّد، و كان يتشعّب أيام المولّدين لأن الامة الإسلامية كانت في حالة التشعّب، و ظلّ الشاعر أو الكاتب يتدرّج و يتصاعد، حتى راود النعاس قوة الابتكار في اللغة العربية فنامت و بنومها تحوّل معظم الشعراء و الكتاب إلى ناظمين، و الفلاسفة إلى كلاميّين و الأطباء إلى دجّالين و الفلكيون إلى منجّمين.
إذا صحّ ما تقدّم كان مستقبل اللغة العربية رهن قوّة الابتكار في مجموع الأمم التي تتكلّمها ، فإن كان لتلك الأمم ذات خاصّة أو وحدة معنوية و كانت قوّة الابتكار في تلك الذات قد استيقظت بعد نومها الطويل كان مستقبل الأمّة عظيماً كماضيها وإلّا فلا!
وما تشهده اللغة اليوم من تأثر للتمدّد الأوربي والروح الغربية مخيف جداً. ناهيك عن استخدام الكم الهائل من مفرداتهم في لغتنا سواء عرّبت أو قيلت كما ذكرت في لغتهم الأم من باب التبجج و التفاخر أننا نحفظ مفرداتهم و نسرّب بعضها في جملنا العربية كبريستيج خاص بكل فرد. إنّ هذا التأثير شكل من الطعام تتناوله اللغة من خارجها فتمضغه وتبتلعه و تحوّل الصالح منه إلى كيانها الحي كما تحوّل الشجرة النور و الهواء وعناصر التراب إلى أفنان فأوراق فأزهار فأثمار. و من خلال ذلك تكون حصلت على مرادها وهمّشت أوصال اللغة الأم بدسها سمّ كلماتها بين الحين والآخر داخل لغتنا العربية. فالشرقيون في الوقت الحاضر يتناولون ما يطبخه الغربيون ويبتلعونه ولكنه لا يتحوّل إلى كيانهم بل يحوّلهم إلى شبه غربيين، فتبين الشرق كعجوز فقد أضراس لا يستطيع لفظ الأحرف جميها بسهولة فيستعين بكلمات غربية أو ما شابه .
خير الوسائل لإحياء اللغة العربية والحفاظ على مستقبلها من التهالك والضياع هو عمل الكاتب والشاعر فاللغة هي قلبه وبين شفتيه وبين أصابعه وهو الوسيط بين القوّة والابتكار والبشر. و هو السلك الذي ينقل ما يحدثه عالم النفس إلى عالم البحث، و ما يقرّره الفكر إلى عالم الحفظ والتدوين. وخير لنا أن نحافظ على مفرداتنا العربية و نحاول التمسك بلغتنا الأم. حفاظاً على الهوية العربية من الضياع…
صباح برجس العلي