التجربة الحريرية في مراحلها الأخيرة: مأزق كبير أم احتضار أخير؟
د. وفيق ابراهيم
يكشف الهجوم الإرهابي على الجيش اللبناني في مناطق الشمال، عن تراجع حادّ للحريرية السياسية كتجربة جدية للسيطرة على النظام السياسي اللبناني من خلال القوة الاقتصادية السعودية والسياسة الخارجية الأميركية.
لقد تسلّلت الحريرية بداية إلى لبنان بعناوين إنسانية على مستوى تعليم الطلاب في الداخل والخارج ومساعدة المناطق المتضرّرة. وانتقلت لتشكل جزءاً من السلطة كممثلة حصرية للحصة السعودية في مؤتمر الطائف 1989 إلى جانب الحصة السورية وبإشراف أميركي.
وسرعان ما أماطت اللثام عن مشروعها الخفي فباشرت بتفكيك البنى التقليدية في الطائفة السنية فقبضت على زعاماتها التاريخية واستوعبت القيادة الدينية. وتوسّعت نحو القوى الفلسطينية فأسّست مواقع نفوذ كبيرة فيها كانت تراهن من خلالها على تحقيق التوازن العسكري مع حزب الله.
أما المرحلة الثانية فتجسّدت بالإفادة من التناقضات بين القوى المسيحية، فاستطاعت من خلال الدبلوماسيتين الفرنسية والأميركية من السيطرة على قوى روحية مسيحية ومعظم الفئات المرفوضة وطنياً.
ولإضفاء قوة على مشروعها، فتحت «خزائن قارون» على الوزير وليد جنبلاط ومعظم القوى الشيعية فأصبح الرئيس الشهيد رفيق الحريري بذلك سلطان اللبنانيين والممثل الحصري والوحيد لكل اتجاهات الطائفة السنية. وهو يساري ويميني ومدني وسلفي في آن معاً يتسربل بلبوس الحدث الطارئ وله القدرة على فكفكته مستغلاً كلّ المجريات لمصلحة نفوذه. وينطبق الأمر على مختلف الأحداث، الحريرية تمثل الجميع اشتباكات المخيمات يجب أن تنضبط في إطار مصلحة الحريرية وتصعيد التطرف في البقاع الأوسط وطريق الجديدة والشمال… كلها أحداث تصب في خانة السلطان الحريري.
لكن الأمور خرجت من «النطاق البلدي اللبناني» بولادة تيار إرهابي متطرف يعمل على مستوى الشرق الأوسط وربما العالم الإسلامي، لديه مشروعه الخاص الأوسع من الطموح السعودي والحريرية. فتسليح «حزب المستقبل الحريري» لمجموعات كبيرة من هذا التيار في مختلف أنحاء لبنان بدا كمن يدجّن ضبعاً، لكن الضبع يحاول اليوم أكل صاحبه قبل الأعداء.
والبيئة السنية الكبيرة التي عملت الحريرية على صناعتها، مالياً وإعلامياً أصبحت تحت رحمة التيارات الإرهابية، رئيس بلدية عرسال علي الحجيري يتباهى بعلاقاته مع الإرهابيين الموجودين في جرود عرسال وعلاقاته بالرئيس رفيق الحريري التي تعود إلى مطلع الألفين.
وللإشارة فإن حزب المستقبل اليوم يضم أجنحة متناقضة تجمع بين تكفيري إرهابي كمعظم نواب الشمال والوزراء وآخرين، وبين يساريين ومدنيين وإقطاع. فبينما يؤيد سعد الدين الحريري الجيش من طرف لسانه وينتقد مهاجميه، يدعو جناح المستقبل في شمال البلاد الجيش إلى عدم الاستعمال المفرط للقوة، ويقوم وزير العدل أشرف ريفي المحسوب على الحريري بنقل الإرهابيين من شارع إلى شارع آخر في طرابلس. ويدعو النائب خالد ضاهر مدعوماً من النواب المرعبي وكبارة وفتفت وكلهم من الحريريين.. يدعون العناصر السنية في الجيش إلى الانشقاق، ويعلن الشيخ داعي الشهال صديق الحريريين إلى «الثورة السنية» في كلّ لبنان، مدعوماً من الشيخ خالد حبنص «رجل الدين» الذي يقود الهجمات ضد الجيش اللبناني.
فأين هي الحريرية اليوم؟ زعيمها مهاجر منذ عدة سنوات بين السعودية وفرنسا وأعالي جبال الألب، وأجنحتها متناقضة إلى حدود الاحتراب وقوتها المالية إلى تراجع… ومشروع سيطرتها على الدولة تراجع تحت ضغطين، نجاح حزب الله في حروب تصديه لـ«إسرائيل» والإرهاب، وصعود الإرهاب التكفيري في المناطق الحريرية.
لقد بدا مشهد زعامات شمال لبنان السياسية والدينية مثيراً للشفقة وهم يظهرون عجزهم عن إصدار بيان يستنكرون فيه قتل عناصر جيش وطنهم فيمكرون مستعملين لغة خبيثة ومتحايلة لا تنطلي على اللبيب، ويقعون في شر محاولاتهم.
إن مصير الحريرية السياسية كقوة أصبحت تمثل جزءاً من الطائفة السنية، مرتبط بنتائج المعركة الدائرة بين الجيش اللبناني وقوى الإرهاب التكفيري المنتشرة من البحر الأبيض المتوسط حتى أعالي عرسال، إضافة إلى بعض البؤر في المخيمات الفلسطينية وضواحيها اللبنانية وأنحاء من مخيم عين الحلوة وتقاطعاته في أحياء طرابلس.
فإذا تمكن الإرهابيون من البقاء في مناطق انتشارهم فإنّ انهيار الحريرية السياسية سيكون سريعاً لمصلحة السيطرة الكاملة للمشروع التكفيري على كامل مناطق الحريرية. وهذا البقاء قد يؤسّس لحروب بين المناطق مع انهيار للمؤسسات الأمنية والسياسية الوطنية، والإنقاذ الوحيد الذي يسمح لـ«المستقبل» بالمحافظة على شيء من رصيده، لا يكون إلا بإعلانه موقفاً صريحاً وعلنياً بتأييد الجيش معنوياً ومادياً، وبرفض المشروع التكفيري، مع طرد النواب والوزراء والقيادات السياسية ورجال الدين الموالين لهذا المشروع.
فهل تنجو الحريرية من مأزقها الكبير أم تواصل مسيرتها نحو الاحتضار؟ الأمور مرهونة بتطور الموقف السعودي، وكلما ذهبت الرياض بعيداً في رفض «داعش» و«النصرة» كلما توسعت حظوظ «المستقبل» في «البقاء السياسي». ويبدو أنّ الرياض مصرّة على تبني «موقف ملتبس» حتى تاريخه، وتأمل من «الإرهاب» أن يدمّر لها العراق وسورية وإيران، على أن تتكفل الولايات المتحدة بالقضاء عليه في مراحل لاحقة وهم نائمون مستلقون يواصلون أحلامهم.
لمجمل المذكور، فإنّ المرجح أن تنهار تجربة الحريرية، لمصلحة قوى أقرب إلى المشروع الوطني والقومي. فتستقيم الأوضاع اللبنانية بما يؤدّي إلى إعادة تعزيز الكيان السياسي وقابليته للاستمرار.
الإرهاب إذاً إلى زوال ولبنان باقٍ بتنوعاته وقواه الحية، ونموذجه الأقرب إلى الحضارة من النماذج التي تتمسك بالقرون الوسطى و«مطاوعة» التفنيش والقتل والذبح والإرهاب الجنسي واسترقاق النساء والأطفال والرجال.