تراث العراق… التدمير الأعمى يكشف عن أثر مبصر!

محمد خضير سلطان

لعلّ الخبر الذي ورد عن وكالة «باسنيوز» الكردستانية في بداية أيار الماضي، من أن محافظ الموصل أعلن العثور على خمسة ثيران مجنّحة، يوحي بأكثر من دلالة عميقة ـ في أكثر من اتجاهين محلي ودولي ـ إلى التفاؤل والفرح الظافر الصغير، الذي يعكس أن المنجم الحضاري المخزون في العراق، أبعد من فكرة التدمير واستخدام العنف، حتى لو طاولت بعض القطع الآثارية غير أن فكرة التدمير، لم تتمكن مهما أوتيت من بربرية، أن تسدد ضربة إعلامية وإرهابية مختلقة، تثير الاستياء حقاً والسخط إلى النهاية. فالعالم يشعر فعلاً بالأسف الشديد لضياع وتحطيم بعض القطع النادرة، لكنه في المقابل، يدرك أن الاستشراق الجديد ما زال مبكراً، ولم يبلغ تقدّمه المناسب في هذا المضمار أمام عشرة آلاف تل ما زالت تخفي مخزوناً هائلاً قابلاً لتغيير الكثير من الحقائق العلمية في العلوم الإنسانية. وهذا التطلع الإنساني وإن بدا هادئاً أو غامضاً، إلا إنه يؤكد بقوة إحدى سمات البنية العميقة للمعرفة في العالم.

إنّ العالم ينظّم مفهوم النهب الحضاري في العراق تبعاً لفكرة الاستشراق المستبد لإدوارد سعيد التي تنصّ على المعنى الاستبدادي الكامن في مشروع التحديث والتنوير بمعنى أن عملية نهب المتحف العراقي على مرأى من القوات الأميركية في العام 2003، تناقض عملية استرداد الآثار المسروقة وملاحقة مهرّبيها في أسواق العالم من قبل الأميركان أنفسهم في ما بعد. كما أن سيرورة الوقائع المتفاوتة بين الوضوح والغموض تجعل التطلّع الإنساني بريئاً في الجانب السياسي، لكنه ليس كذلك أو يبدو أكثر تفاؤلاً في المعرفة.

ربما هي مقاربة معنى مضاف إلى نصّ أدونيس احتفاء بالأشياء الغامضة الواضحة التي تشير هنا بحسب المقاربة إلى البحث الاستشراقي الواضح في الشرق من أجل المركزة الغربية بكل محمولاتها الاستبدادية. غير أننا نستقرئ هويتنا الذاتية الغامضة عبثاً في الركام الغربي.

يشير الراحل محمد أركون إلى أنّ اكتشاف ملحمة غلغامش، يمثّل ثورة في العلوم الإنسانية تشبه ثورة كوبرنيكوس في علم الفلك، إذ أعادت العمق الملحمي في التاريخ إلى 1500 أبعد من الإلياذة اليونانية. كما يذكر نائل حنون عند ترجمته المباشرة إلى العربية للملحمة، أنّ قطعة صغيرة من حجر، نقشت عليه عبارة آكادية، حفظت في لوح زجاجي أكثر من مئة سنة قبل فكّ طلاسمها بانضمامها إلى أحد السطور من ألواح غلغامش، ولو أدرك ماركس وأنجليس الاستشراق الحديث لتقدّم كثيراً بحثاهما في النموذج الآسيوي للاستشراق، ولبرهنا على صراع طبقي آسيوي جديد بدلاً من توصّلاتهما عن الكمون الطبقي والملكية المشاعة.

قال محافظ الموصل نوفل العاكوب: «القوات الأمنية عثرت على خمسة ثيران مجنّحة جديدة تعود إلى العهد الآشوري قبل نحو ثلاثة آلاف سنة، في تل التوبة، داخل قصر تمّ اكتشافه مؤخراً شرق الموصل». وبيّن، أنّ خبراء من قبل مديرية آثار وتراث نينوى عثروا على الثيران داخل قصر كبير في تل التوبة الذي يقع عليه مرقد النبي يونس، الذي تم تفجيره في شهر تموز عام 2014. وذكر أن القصر تحت حماية مشدّدة من قبل القوات الأمنية، بعد أن تمكّنوا في أقل من شهر من العثور على أكبر ثور مجنّح يعود أيضاً إلى العصر الآشوري، ما زال موجوداً هو الآخر قرب تلّ التوبة.

كأنّ التدمير الأعمى، يكشف خلال عصف التراب والحجر عن أثر مبصر، يعيد تشكيل الصورة الأنثروبولوجية والتاريخية بين الأثر المتراكم محلياً والفكرة الناشئة عالمياً… بين الظاهر والخفي، بين المعرفة الكامنة ونسبية الوعي… تل التوبة هو مكان التفجير حيث موقع منارة النبي يونس، لكنه أثر على أثر في سلسلة حقب مستمرة لآلاف من السنين.

في بغداد العشرينات من القرن الماضي كان «مثقفو الصيانة» مثل مصطفى جواد وفؤاد سفر وغيرهما، حين كانت مديرية الآثار والتراث قد سبقت تأسيس الدولة العراقية، يقومون بالكشف المبصر عن الأثر الآخر المبصر، من خلال إزالة البصمتين العثمانية والإنكليزية المتراكمة في البناء العباسي، فأنشأوا المدرسة النظامية من جديد بعد أن أزاحوا مشاجب أسلحة الخان التركي وجنوده، وأقاموا ساعة بغداد بعد أن مسحوا ظلالها العالقة. وهكذا فإن أطمار البيت الرافديني هي آثار متراكمة تنكشف بين التدمير الأعمى والمبصر عن حقبها مثلما من جانب آخر نبت الاستشراق في كنف المركزية العقلانية الغربية، فصرنا جميعاً مستكشفين غربيين نتبجّح بما صُنع لنا، حتى نشأ نزاع جديد بين وعي وجودنا التاريخي والمصنع الاستشراقي، فأصبحنا نتحرّى قرب المكان الجديد زماننا القديم. وهذا النزاع في الثقافة العراقية بين الرؤية المحلية والدولية في الاستشراق يمثله عدد من الباحثين من بينهم نائل حنون.

تل التوبة هنا مثل حاوية أرضية هائلة في كل قشرة من باطنها حقبة تحتوي على حجر حدود ملكية كلما دمرت قشرة، تناهت أخرى بلغز جديد واستدعت تفكيراً وعثوراً تنقيبياً على نحو ما. كلّما تحطم أثر، تنادى حجر حدود ملكية من الباطن بأن هذا البيت الرافديني هو كما تقول إحدى مسلاته نقلاً عن ترجمة نائل حنون بتصرّف، بأنه بيت للأبد إلى آخر أناس البشرية… من يزيله أو يطمره:

عسى الإله آنو أن يذهب به غضب ويخمد أنفاسه.

عسى الإله أنليل المتعالي، مقدّر أقدار الإلهة، أن يقدر له أقداراً سيئة ويخصّص له الفقر، سوء الطالع وكلام الناس.

عسى الإله أيا أبسي، سيّد الفكر أن يحرمه بهجة الكبد وتوهج القلب والرخاء الوافر.

عسى الإله سين سيّد التاج المنير أن يسوّد وجهه فلا يحرز أبّهة.

عسى الإلهان شمش وأدد الجسوران أن يجرّا عليه طوقاً سيّئاً.

عسى الإله ننورتا سيّد الحدود وأحجار الحدود أن يقتلع حجر حدوده.

عسى أن يستحمّ بالدم والصديد بدلاً من الماء.

كاتب عراقيّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى