واشنطن ـ طهران: إنذارات وعقوبات متبادلة الاتحاد الاوروبي في عين العاصفة

إيران تمهل شركة «توتال» الفرنسية العملاقة مدة 60 يوماً للتخلص من عواقب الإجراءات الأميركية لتعاملها مع إيران، وإلا ستخسر عقداً نفطياً أبرم عام 2017 قيمته نحو 5 مليار دولار والهند على لسان وزيرة خارجيتها، سوشما سواراج، تتعهّد بعدم الالتزام بالعقوبات الأميركية المفروضة على إيران، وتعترف فقط بنظام عقوبات صادر عن هيئة الأمم المتحدة.

الشروط او الإنذار الأميركي، على لسان وزير الخارجية مايك بومبيو، قبل بضعة أيام، كانت بمثابة انتهاك لسيادة إيران عليها الالتزام بها قبل الشروع في التفاوض مع واشنطن. ردّ طهران الرسمي لم يتأخر إذ جاء على لسان المرشد الأعلى علي خامنئي، أنّ بلاده تنذر الدول الأوروبية، الترويكا الأوروبية – ألمانيا، فرنسا وبريطانيا، بأنه «يجب» عليها الخروج عن صمتها ومعارضة العقوبات الأميركية كدليل على حسن نيتها الالتزام بالاتفاق الدولي الموقع معها وبخلاف ذلك تصبح إيران في حلّ من الإتفاق وستستأنف برامجها التي كانت قد أوقفتها.

لوحظ أنّ «شروط» بومبيو رافقها مصطلح «يجب على إيران …» في المقابل كرّر المرشد الأعلى مصطلح «يجب على الدول الأوروبية» أكثر من مرة في خطابه الجوابي على انسحاب أميركا من الاتفاق النووي، مما اعتبر في الدوائر السياسية الغربية أنّ خطابه كان بمثابة «إنذار إيراني أخير» لتلك الدول.

ألمانيا وعلى لسان مستشارتها أنغيلا ميركل أكدت خلال زيارتها للصين أنّ بلادها «ستظلّ تحترم الاتفاق النووي.. نحن متضامنون مع الجانب الصيني، ونعتقد أنّ الاتفاق الحالي بشأن إيران يجب أن يستمرّ». التشديد مضاف . كذلك تناغمت فرنسا مع جارتها الألمانية على لسان وزير خارجيتها بأنّ بلاده «ستظلّ طرفاً في هذا الإتفاق » وقامت بريطانيا بتأكيد التزامها ببنود الإتفاق المبرم.

«بالصدق ينجو الفتى من كلّ معضلة»…

المعضلة الأساسية التي لا يهتدى بها أمام «الترويكا الأوروبية» تتمثل في مصير حجم استثماراتها وانفتاحها اقتصادياً على إيران، منذ عام 2015، أمام تهديد واشنطن المتجدّد بمعاقبة أيّ طرف يتعامل مع طهران اقتصادياً.

في الماضي القريب استطاع الإتحاد الاوروبي التغلب على العقوبات الأميركية المفروضة على كوبا، عام 1996، أرسى بذلك قوانين تنظم علاقة دول الإتحاد تسمح له «.. التدخل لحماية الشركات الأوروبية من أيّ عقوبات أميركية». ويجري استعادة «تمجيد» موقف دول الاتحاد لتطبيقه مرة أخرى في ما يخصّ إيران.

التعبير الأبرز عن ذلك جاء على لسان وزير المالية الفرنسي، برونو لو مير، في حديث متلفز على قناة «سي نيوز» قائلاً «.. هل سنسمح للولايات المتحدة بأن تكون الشرطي الاقتصادي للعالم؟ الإجابة لا».

حجم التبادل التجاري بين دول الإتحاد الأوروبي وإيران حديث العهد لكنه ينمو باضطراد، ويستند إلى نظام الصادرات المعمول به داخل الاتحاد نظراً لأنّ إيران ليست عضواً في منظمة التجارة العالمية. وكانت دول الاتحاد تحتلّ المرتبة الأولى في التبادل التجاري مع إيران قبل إنفاذ نظام العقوبات عليها.

هيئة «يوروستات» التابعة للاتحاد أفادت في أحدث إحصائية بتاريخ 17 شباط/ فبراير 2018، أنّ مجمل التبادل التجاري يبلغ نحو 21 مليار يورو سنوياً، شبه مناصفة بين الصادرات الأوروبية والواردات الإيرانية، بفارق 600 مليون يورو لصالح دول الإتحاد.

بيانات صندوق النقد الدولي تشير إلى ارتفاع حجم الصادرات الإيرانية لدول الإتحاد بمعدل 11 مليار دولار عام 2016.

الصادرات الإيرانية النفطية لأوروبا، وفق الهيئة الاوروبية، نمت بنسبة 84 لعام 2017، مقابل زيادة في معدل الصادرات الأوروبية لإيران بنسبة 32 للفترة الزمنية عينها. معظم الصادرات النفطية الإيرانية، 70 ، تذهب للصين ودول آسيوية أخرى، و 20 تصدر لدول الإتحاد. من أبرز الصادرات الأوروبية عقود قطاع الطيران للنقل المدني ايرباص، تقدّر قيمتها بنحو 18 مليار دولار، وشركات صناعة السيارات لا سيما الفرنسية، رينو وبيجو، والصناعات الالكترونية والمعدات الألمانية سيمنز.

بالمقارنة، «الاستثمارات» الأميركية في إيران بعد توقيع الإتفاق اقتصرت على صفقة موقعة لن تنفّذ بين إيران وشركة بوينغ لصناعة الطائرات، عام 2016، لشراء 50 طائرة من طراز «بوينغ 737 ماكس 8»، لشركة «اير إيران»، واخرى لشركة «إيران آسمان الجوية» لشراء 30 طائرة إضافية قيمتها الاجمالية نحو 16،6 مليار دولار.

أكدت المفوضية الاوروبية لدول الاتحاد أنها ستعيد العمل بالقوانين المشار إليها أعلاه، لعام 1996، والتي تمنع بموجبها التزامها بالعقوبات الأميركية، والسماح لها بالتعويض المالي إنْ تعرّضت للضرر. يُشار إلى أنّ واشنطن فرضت غرامات مالية كبيرة على بعض كبريات المصارف الأوروبية، لإتجارها مع إيران قبل توقيع الاتفاق، منها 9 مليارات دولار على البنك الفرنسي «بي إن بي».

أحد مستشاري الرئيس الفرنسي إيمانيويل ماكرون سارع بالقول إنّ ردّ الاتحاد الأوروبي على العقوبات الأميركية سيكون «امتحاناً هاماً لممارساتنا السيادية».

خيارات إيران للتغلب على العقوبات

من أبرز الثروات المسيلة بين أيدي إيران الذهب إذ استطاعت استعادة نحو 13 طناً من مخزونها المصادر من قبل أميركا عقب توقيعها الاتفاق النووي. واستطاعت أيضاً، وفق التقارير الإعلامية المتعدّدة، تسييل أموالها في الخارج ثمناً لمنتجاتها النفطية بمبادلتها بالذهب عبر الأراضي التركية والإماراتية للتغلب على العقوبات الأميركية، بلغ حجمها نحو 100 مليار دولار منذ عام 2010. التبادلات التجارية بالدولار الأميركي تخضع للمراقبة والقيود الأميركية، في أيّ بقعة من العالم أما الاتجار بالذهب فلا تنطبق عليه قيود المصارف العالمية.

أحد الخبراء الاقتصاديين الأميركيين، جيف كريستيان، ألقى مزيداً من الضوء على طبيعة التبادل التجاري الإيراني قبل عام 2015، قائلاً إنّ الشركة الإيرانية الوطنية للنفط وفرت النفط ومشتقاته لزبائنها مقابل قيمته بالليرة التركية، والتي تمّ تسييلها في ما بعد لشراء الذهب.

يرجح أنّ إيران ستمضي في بيع منتجاتها من النفط ومشتقاته بتسعيرة الذهب مباشرة، خاصة بعد تقليص قيمة الليرة التركية واضطرابات الاقتصاد التركي بمجمله.

المؤرّخ الأميركي ف. ويليام اينغدال يعوّل أيضاً على تقلص الاتجار بالدولار الأميركي واستنباط بدائل له قائلاً «… إنّ الخطوات الحديثة والمتنامية التي اتخذتها معظم البلدان للابتعاد عن الاعتماد على الدولار، بحدّ ذاته غير كافٍ لإنهاء هيمنة الدولار الأميركي، بسبب قدرة واشنطن على إجبار الدول الأخرى على شراء أو بيع نفطها بالدولار فقط. ولكن كلّ عمل استفزازي أو عقابي تقوم به واشنطن يجبر دولاً أخرى على إيجاد حلول».

عند الأخذ بعين الاعتبار موقفي الصين وروسيا التمسك بشدة ببنود الاتفاق النووي، فضلاً عن الترويكا الأوروبية بدرجة أقلّ، فمن المرجح أن تستمرّ الدولتان في التعامل مع إيران والتبادل التجاري معها بالذهب أو بالعملات المحلية للبلدين، لتفادي نظام العقوبات الأميركية وكذلك التعامل خارج نظام «سويفت» للتحويلات المالية والمعاملات بين البنوك، الذي تأسّس عام 1973 مقرّه بالقرب من بروكسيل عاصمة بلجيكا، وتحييد نظامه للرقابة الدولية الذي أنشئ عام 2012.

في تفاصيل الرقابة الأميركية على سيادة الدول الأخرى، رصدت تحويل تركيا نحو 27 طناً من رصيدها من الذهب في المصارف الأميركية، بداية العام الحالي، إلى بنك بريطاني. وأضافت روسيا نحو 214 طناً من الذهب لمخزونها ليصبح حجم احتياطيها من الذهب 1.891 طناً، لتتقدّم إلى المرتبة الخامسة دولياً لحجم المخزون تليها الصين مباشرة.

تداعيات الإقلاع عن التبادل التجاري الدولي بعملة الدولار تدركه واشنطن جيداً، إذ انّ «التحوّل إلى عملات أخرى أو حتى إلى المقايضة في هذه المرحلة، فإنّ هذا سيؤدّي إلى سلسلة من الأحداث التي من شأنها أن تؤدّي إلى زيادات حادة في أسعار الفائدة الأميركية وأزمة مالية أميركية جديدة».

جدير بالذكر أنّ الولايات المتحدة استفادت من تصنيفها لنفسها بأنها تقف على الحياد لأبعد مدى في بدايات الحرب العالمية الثانية، وباعت صفقات أسلحة لكلا الطرفين المتحاربين، ألمانيا النازية وبريطانيا، واشترطت تسديد أثمانها بالذهب محمّلاً على بواخر تحط في موانئها.

العقوبات الأميركية أحادية الجانب لن يكون لها مفعول فوري، إذ أتاح الرئيس ترامب مهلة زمنية من 3 أشهر لتطبيقها على الشركات الأميركية والأجنبية مما سيتيح فرصاً إضافية للترويكا الأوروبية، وبعض الشركات الأميركية، التوصل لحلّ يرضي الطرفين.

في حال الاصطدام بفشل الجهود للتفاهم مع إدارة تلوّح دوماً بالعصى فإنّ الأزمة مرجحة لتتعمّق بين واشنطن ودول الإتحاد الاوروبي لا سيما عند رصد إرهاصات داخل دولها بضرورة انتهاج مسار مستقلّ عن واشنطن. قد لا يتحقق الأمر لتلك الإرهاصات في المدى المنظور نظراً لطبيعة توازن القوى والمصالح الاقتصادية الراهنة، بل تمهّد الأرضية لبروز قوىوقيادات من نمط ينشد استقلالاً ومساحة حرية أكبر والابتعاد عن اللحاق بركب واشنطن. بل الاقتداء بنظام تعدد القطبية الدولية الذي ترفضه أميركا بشدة وعن سبق إصرار وتصميم.

أميركا بطبعتها السياسية الراهنة لخصها أحد كبار محرري اسبوعية «ذي نيشن»، توم انغلهارت، قائلا إنّ بلاده ومنذ عام 1991 «انخرطت في نشاطات تروّج لانتصارات مضللة ومدمّرة». واستند إلى إحصائيات معهد واطسون لكلفة الحروب منذ ذاك التاريخ والتي بلغت أرقاماً مذهلة بنحو 5،6 تريليون دولار وهو رقم قريب من مبالغات الرئيس ترامب الذي يحافظ على استخدام 7 تريليون. وأضاف أنّ واشنطن «غير قادرة على تحقيق أيّ أهداف باستثناء الدمار وتجزئة مذهلة لمناطق واسعة من الكرة الأرضية».

مركز الدراسات الأميركية والعربية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى