نزيه أبو عفش… الفنان التشكيليّ الذي عرفناه شاعراً
لورا محمود
عرفناه شاعراً وكاتباً ينسج لنا الحلم ويصوغه شعراً وكلمة. هو الثابت بمواقفه والملتزم قضاياه، جمع أجمل الفنون من الشعر والكتابة والفنّ التشكيلي، ويرى أن هناك أخلاقاً في الفن، فيجب عدم الاستسهال بتقديم أيّ نوع من الفنون إلى المتلقّي. نشعر بكتاباته ببعض السوداوية والكآبة مثل اللوحات التي يعرضها اليوم، لكنه يقدّمها بطريقة خلاقة كأنه يريد أن يقول: «لا يمكن للورد الجميل أن ينبت إلا في الطين». يرى أنّ الحرّية يليق بها أن تكون جميلة، لا أن نخاف أن تطرق بابنا، وكان قارئاً دقيقاً لكل ما مرّت به سورية في سنوات الحرب. إنّه نزيه أبو عفش، الذي وضع كلّ ما فكّر به وخزنته الذاكرة طوال تلك الفترة في لوحات حملت من السواد والبياض أكثرهما، وازدحمت بوجوه متعبة أنهكها الحزن، لكنه قدّمها بتفرّد شاعراً ورساماً وكاتباً في معرض أقيم في المركز الوطني للفنون البصرية في دمشق.
عرف المهتمون بالشأن الثقافي نزيه أبو عفش شاعراً امتدت تجربته عبر عشرات السنين من الإبداع والعطاء وكاتباً صحفياً في أهم الصحف العربية ليقدّم لجمهور الفنّ السوري حالياً تجربته كفنان تشكيليّ.
معرض نزيه أبو عفش الذي يقام في «المركز الوطني للفنون البصرية» في دمشق يكتشف فيه المتلقي عمق الانسجام التعبيري بشخص الكاتب والشاعر والفنان، لكن في أعماله الفنية تبقى المحاكاة مباشرة اكثر من المفردات في الحجر والقماش والمربعات والكتل مع تفاصيل عديدة تنصهر في إبداعه للتعبير عن حالة انسانية شديدة الحساسية تجاه قسوة الحاضر.
تكوينات متميزة في لوحات أبو عفش استخدم فيها الأبيض والأسود وعند إدخاله اللون في بعض اللوحات جاءت كبعد بصري آخر كما تنوّعت الخامات التي اشتغل عليها في حين استخدم تقنية اللون الواحد في الموضوع الذي بين يديه وتميزت المفردات بالزهد فجاءت قليلة لكنها اغتنت من طريقة تناوله للموضوع ونسج بنائه وخاماته.
أما الكتل الصخرية والحجرية في لوحات أبو عفش في تفاصيلها وتكويناتها جاءت كوجوه تتقارب لتطبع بروح تعبيرية ما تحتويه في حين تميزت أعمال الأبيض والأسود بالتماهي والاختصار في التفاصيل والتكثيف الأصيل ما اكسبها حضوراً عميقاً.
وفي تصريح صحافيّ قال رئيس مجلس إدارة «المركز الوطني للفنون البصرية» الدكتور غياث الأخرس: نزيه أبو عفش واحد من الشعراء الرسامين المدهشين والمختلفين والمميزين عن أقرانهم انطلاقاً من جمعهم مواهب مختلفة، لافتاً إلى أن تعامل أبو عفش مع تقنية الفحم ورهافة تدرجات اللون الأسود جعل أعماله بمنتهى الحساسية وشاعريتها حادة.
وأضاف الأخرس: عندما نشاهد معالجة أبو عفش للحجم والفراغ نشعر به كأنه نحات بينما يظهر لنا لدى استخدامه الخامة ومداعبته الأبيض بشكل خاص الشاعر الرسّام.
وفي حديث إلى «البناء»، أكّد الأخرس أنّ أهمية هذا المعرض تأتي بأهمية المكان وأهمية الفنان الشاعر نزيه أبو عفش. فالمعرض مهم بالنسبة إلى الحركة التشكيلية، وقد أدهشتني اللوحات منذ رأيتها. وأنا أرى أنّ هذه اللوحات لها علاقة بالمرحلة التي عشناها ونعيشها في سورية من دون ادّعاء أدبيّ أو تفسير. فهناك تعبير عميق وحارّ وخصوصية في هذا التعبير، وقوّة أيضاً. والفنان أبو عفش استعمل المادة السوداء سواء بالفحم أو الرصاص، فمع أنها تعطي نوعاً من الضبابية الحقيقية إلا أنها تعطي عمق أكثر وغموض رغم المأساة فالمأساة ليست مباشرة للمشاهد، فهو يراها بحنان وتدريجياً تتعمق إليه.
وأضاف الأخرس: لقد التقت الأهمية بين المعرض والمركز، فنحن كمركز مستمرّون بنشاطاتنا ولدينا نشاطات مستمرّة إلى نهاية السنة وحتى حزيران من السنة المقبلة. وهي سابقة في سورية، حتى في أوروبا نادراً ما نرى هذا، إلا في غاليري أو اثنين، وهذا دليل على أهمية المركز ورؤيته وغايته. وثمّة فنانون كثيرون عرضوا أعمالهم في المركز، ولم يكونوا قد عرضوها سابقاً، وشاهدها الجمهور السوري. وقد ركّزنا في المركز أيضاً على النشاطات الموسيقية والمسرح والندوات.
وعن رأيه في المعرض قال الناقد التشكيلي سعد القاسم في حديث إلى «البناء»: هذا المعرض يشبه التحوّل الذي حصل لدى الشاعر الفنان نزيه أبو عفش. فنحن قبل سبع سنوات كنّا نرى أن لوحة نزيه أبو عفش فيها لون واضح سواء كان هادئاً أو تعبيرياً أو لوناً تأمّلياً. لكنّنا كنا نرى دائماً لوناً. أما اليوم، فنرى الأبيض والأسود، وهذا له علاقة برؤيته لِما حدث في سورية خلال السنوات السبع الماضية، وينسجم مع موقفه الوطني والإنساني. فهو منذ بداية الهجمة على سورية كان له موقف واضح، وكان يرى خطوط المؤامرة، وكان واضحاً بشعره ومواقفه.
وأضاف القاسم: ما يريد أن يقوله اليوم أبو عفش بلوحاته التي تحمل اللونين الأبيض والأسود، إن هذين اللونين أكثر قدرة على التعبير. فنحن لم نعد أمام مساحة ملتبسة، بل الأمور كلها واضحة بالنسبة إليه، وعبّر عنها حتى قبل الأزمة عندما قال: «ليتها لم تكن»، فهو كان يقرأ ما سيحدث ويقرأه بشكل صحيح وانتقده الكثيرون على ذلك.
أما عن بعض اللوحات القليلة الملوّنة فقال القاسم: نحن جميعا نعرف أبو عفش الشاعر الذي يتميّز بصوت شعريّ ويملك لغته الخاصة، ولكنّ قليلين مَن يعرفونه كفنان تشكيلي، وهو منذ أكثر من عشرين سنة يُعرف بأعماله الفنية المقتناة من قبل الكثيرين، ولكن دائماً كان هناك لون يشبه الحالة الازدواجية الموجودة عنده والروح الثائرة المتمردة والحانقة أحياناً والتأمل الإنساني العميق. واللون اليوم في بعض اللوحات هو بمثابة فسحة لرؤية الجانب التأمّلي المريح. إنما عموماً، لوحات المعرض مختلفة فيها حالة جديدة تُظهر الفنان أبو عفش بشكل مختلف.
بدوره، قال الفنان بسام كوسا إنّ نزيه أبو عفش حمل بكفّيه خرزاً ملوّناً ونثره، يلتقط اللحظة الحلم ويقدّمها لنا مساحة روح وأجساداً متعبة ملتصقة ببعضها، مشكّلة كومة حزن وألم وعيون تشي بالهلع وكسر الخاطر مما أتى وما قد يأتي. نزيه أبو عفش هو الأمير العبقري الأنيق فارس الألوان شاغل الدنيا ومالئ الأرواح.
والتقت «البناء» الفنان التشكيلي جورج العشي الذي رأى أنّ الفنان أبو عفش اعتمد اللونين الأبيض والأسود في غالبية اللوحات، كما اعتمد على التكوينات والوجوه الحزينة.
وأضاف العشي: لا يوجد لدى أبو عفش انفصام شخصية بين الرسم والشعر فهو واحد. ما يرسمه هو نفسه الذي يكتبه، ولديه التوهّج الداخلي نفسه، وما يختلف وسيلة التعبير فقط. فهو يكتب كلمة أو يرسم لوحة، والقاسم المشترك بين اللوحات الأزمة السورية التي عايشها بشكل وجداني مهمّ، فهو يسجّل التاريخ بطريقة فنّية.
ولفت العشي إلى أنّ اللوحة باللونين الأبيض والأسود لها قوة تأثير على المتلقي أكثر من اللوحة الملوّنة. فهذان اللونان يفسحان المجال للمتلقّي لأن يلوّن الأشكال أو الأشخاص في اللوحة على ذوقه، أما بالألوان فنحددّ له نظره. بينما باللونين الأبيض والأسود نجعله يعيش مع الفنان أكثر.
وتحدث عضو مجلس أمناء المركز الوطني للفنون البصرية بديع صنيج الذي أكّد أن جلّ ما يشتغل عليه الفنان أبو عفش، تقديس البشر واستنباط أكبر قدر ممكن من إنسانيتهم التي تظهر بشفافيتها المختلفة في معرضه، حتى كانت خطوط أعماله بمثابة رسم للهالات أكثر منها تحديد ملامح. وسنكتشف رويداً رويداً أنه لا يُشبع وجوه لوحاته بالتفاصيل بقدر ما يعزّز مقادير عطائها للرائي.
ورأى صنيج أنّ الصلة مع أعمال نزيه تكمن في عمق النور وتفاسير الظلال وتواشيح الفحم التي تميل لأن تكون ذهبية، إذ إن الحكمة التي فطر عليها الشاعر لا بدّ ستتبدّى في لوحاته ذهباً.
وكما أنه ينشغل بتكثيف صوره الشعرية ودلالات نصوصه، فإنه يختزل في لوحاته ما استطاع ليبقي على روح الشكل ونورانيته، وكأنّ كلّ ما رسمه ووقّع عليه تشكيلياً لا يخرج من كونه «أيقونات من نور»، ولو كان ما يرسمه مجرّد بضعة حجارة.
وأضاف صنيج: لا نستطيع أن نفصل بين ما يكتبه أبو عفش صاحب كتاب الشعر «الله قريب من قلبي»، وبين ما يرسمه. ففي كلا الحالتين هو ثاقب الرؤيا وفريد في روحانية وصدق ما يشتغل، مولع دائم بتقشير طبقات الألم والظلمة بغية الوصول إلى جوهر النور والسلام والسكينة. ولو كان ذلك بأسر البياض الناصع داخل دائرة سوداء تشعّ بهاءً.
يذكر أن الشاعر نزيه أبو عفش من مواليد مرمريتا عام 1949، عمل في مجالي التعليم والصحافة وهو عضو باتحاد الكتاب العرب.
ومن مؤلّفاته: «الوجه الذي لا يغيب» و«عن الخوف والتماثيل» و«حوارية الموت والنخيل» و«وشاح من العشب لأمهات قتلى» و«أيها الزمن الضيق» و«أيتها الأرض الواسعة» و«الله قريب من قلبي» و«تعالوا نعرف هذا اليأس» وغيرها.