رتوش حول رواية «يحيى» لسميحة خريس
نزار حسين راشد
إنها ما أسمّيه «الرواية المشروع»، التي توظّف أدواتها، لتقودنا إلى استنتاجٍ حُدّد مسبقاً، في ذهن الراوي!
ويبدو لي أنّ في الساحة الثقافية العربية، منذ عهد النهضة العربية وإلى اليوم، تواطؤاً ممنهجاً على ذلك. يكفي أن تقرأ فرقعات يوسف زيدان، أو رواية «مولانا» لإبراهيم عيسى، أو تتتبع الروايات الفائزة بجوائز عبر مؤسّسات ثقافية مموّلة من جهات ذات تبعية سياسية محدّدة، أو تدور في فلكها، لتتحسّس وجود مشروع كهذا! وهذه الرواية بالذات ـ «يحيى» لسميحة خريس ـ مموّلة من «الصندوق العربي للثقافة»، وهو بدوره صندوق ذو وشائج، وتساهم في تمويله جهات أوروبية!
في سياق روايتها، تمسك الراوية بيدنا لتقودنا على طريقٍ مرسومٍ سلفاً، من خلال بطلها الوحيد «يحيى أبو بكر عيسى الكركي»، وترينا الدنيا من خلال عينيه، اللتين يتأمل بهما العالم في حلّه وترحاله. أما باقي أشخاص الرواية، فليسوا إلا كومبارس متحلّقين حول هذا البطل الخارق. فما إن يحطّ في رقعةٍ حتى تنجذب إليه الجماهير انجذاب الفراش إلى النار، وتطوف حوله حتى الاحتراق، جماهير غالبها من الطبقة المسحوقة التي لا يجمعها جامع إلا الفقر والظلم، فترى في شخص «يحيى» الخلاص. وهكذا تُسقط الرواية رؤيا طبقية ماركسية معاصرة، على أحداث تاريخٍ سبقها بقرون، وتدمغه بدمغتها!
حتى أنها تجرّ بطلها بعيداً عن الصوفية التقليدية، التي تقدّس الأقطاب والأولياء. حتى أنه يصف التماس الخلاص عن طريق الأضرحة والأولياء بالحشيشة، ولولا حرص الراوية على عدم السقوط في الشرك، لقالت «أفيون الشعوب»!
إنه ثائر صوفيّ، فكيف يجتمع النقيضان؟ الصوفيّ الهائم في عالم الروح، والثائر المنغمس في طين الواقع؟
لقد جمعتهما سميحة عنوة وعلى غير مثال! فهذا نموذج لم يولد أبداً عبر التاريخ، ويبدو أن الراوية تستشعر ذلك، فتعرج على ذكر العز بن عبد السلام، لتعقد مقارنة بينه وبين بطلها، مانحة الأفضلية لبطلها باعتباره رجل جماهير والعزّ رجل سلاطين، خلافاً لشواهد التاريخ إذ إن العزّ جرّدهم من هيبة السلطنة وأصرّ على بيعهم في الأسواق، حتى يستجيبوا لداعي الجهاد، وهنا بيت القصيد، فالمعركة مع أعداء وتهديدات الخارج الماثلة دائماً على امتداد تاريخ «الدولة الإسلامية»، غائبة تماماً عن جوّ الرواية، فالناس يساقون إلى الجندية غصباً كجزء من سياسة الاستبداد التي تمارسها الدولة في غياب الدافع الذاتي والانقياد العقائدي، علماً أن الفترة التاريخية التي تناولتها الكاتبة 1575 ـ 1610 وهي فترة العمر البشري التي عاشها «يحيى الكركي» بطل الرواية، لم يزل حاضراً فيها في الذاكرة الجماهيرية الاجتياحان العاصفان الصليبي والمغولي! ولكن الكاتبة تصرّ على تجاهل هذا الحضور، فلا ذاكرة جمعية هناك، ولا توقّد إيمانياً في نفوس الجماهير، وراء حاجاتهم اليومية، وشكواهم من تغوّل الانكشارية وعسكر المماليك على قوت يومهم، ومصادر رزقهم!
وعلى رغم ذلك، هناك جانب مضيء في هذا السرد الروائي. فقد أعاد طرح المسائل الفكرية والفقهية العابرة للتاريخ والتي ما زالت ترسم علامات استفهام على طريق تطوّرنا الفكري كـ«أمّة»، ولكنها لوت عنق الإجابة لتجعل طريق الخلاص في الرؤية الصوفية الهائمة التي لا تقدم إجابات قاطعة، ولكنها بدلاً من ذلك تتصالح مع التناقضات، وهذه بحدّ ذاتها رؤية ساذجة ومخالفة حتى للديالكتيك الماركسي الذي يرى أن التناقضات تلد حلولها من خلال الصراع الطبقي والذي حضر بقوة على امتداد الرواية!
هناك مفارقة أخرى في غمار هذا النصّ المغامر، فحين تصف الراوية البيمارستان أو المصحّة النفسية التي أُدخل إليها بطلها «يحيى» بتهمة الجنون، تقدّمها كنموذج راقٍ، لا بل مسرفٍ في الرقيّ، يستحضر أرقى المصحّات النفسية في عالم الحضارة المعاصرة، ويقف هذا النموذج المشرق على جانب الصورة في تناقض صارخ مع الجانب المظلم في الحياة الاجتماعية! فكيف يجتمع النقيضان في إطارٍ واحد خلافاً لكل نظريات علم الاجتماع، منذ ابن خلدون وحتى أرنولد توينبي وديورانت، فالنموذج الحضاري لا يكون على هذه الدرجة من الاختلال الفادح!
تكثف الرواية رؤيتها في الفصل الأخير، من خلال حوارية طويلة في قاعة محكمة يقبع العوام خارجها، ويعتصم الخاصة داخلها، في تعميق لمشهد الاضطهاد الطبقي الذي تبنّته الرواية، وهنا تتدخل الكاتبة على لسان بطلها لتحشر رؤيتها المسبقة الخاصة. فحين توجّه للبطل تهمة الزندقة لقوله بالحلول والاتحاد، يقول إنها مقاربة لفظية تصور حالاً من أحوال الوجد، ولكنه لا يتوقف عند ذلك بل يغامر بالقول إنها كقول النصارى باتحاد اللاهوت بالناسوت، وهو ما لم يقل به أحد من شيوخ الصوفية، وإلا لطردوا إلى خارج دائرة الإسلام منذ زمن بعيد، ما يفضح تدخّل الكاتبة وإقحامها رؤيتها الخاصة، على لسان البطل، وهو ما تشي به أيضاً عبارات توزّعت هنا وهناك على مدار الحوار، مثل قولها إن الأتباع سيأكلون جسده في إشارتها إلى العقيدة المسيحية، التي تقدّم خبز القدّاس كرمزٍ لجسد المسيح، عداك عن أن المسيحيين يقولون بالاتحاد دون التمازج، هرباً من أن يضطروا للقول أن الله أكل وشرب أو تغوّط. وهي عقدة الطبيعتين، التي عجزت عن حسمها المجمعات المسكونية، وهو ما خفي أمره عن الكاتبة أو أنها تعمّدت تجاهله، لتخلط المقولتين لتفسح المجال لرؤيتها الخاصة عن وحدة الأديان، وانتفاء التمايز في ما بينها!
ويُختَتم المشهد بتقديم رأس «يحيى» على طبق للسلطان، في إشارة إلى رمزية العنوان، وإحالة إلى قصّة النبي يحيى مع هيرودوت!
إن تقديم الرواية آراء جاهزة معدّة مسبقاً لا يخدم هدفها بقدر ما يحبطه، فالقارئ يستطيع استشفاف ذلك التساوق مع توجه مؤسّسي دوليّ يهدف إلى إدخال الإسلام إلى حظيرته عبر حوارية تاريخية، لم تجد لها جسراً غير طوف الصوفية العائم على بحر العقيدة، في رسالة تهدف إلى محو الخطوط بين الأديان من خلال مقولتي الحلول والاتحاد، المقولتان اللتان لم تعد تسندهما لا الفلسفة ولا العلم الحديثان، وتجاوزهما الفكر بخطى واسعة لا تقويان على اللحاق بها بقدميهما الضعيفتين، ولكن الارتداد إليهما هو حيلة الضعيف، أمام اقتحام الإسلام كدين للواجهة الإنسانية حتى أصبح أكثر الأديان اجتذاباً لمعتنقين جدد، في حين خفتت جاذبية الأديان الأخرى! إلا أن الرواية أدارت ظهرها لحقائق الواقع، وأقامت على باب خيمة الدعوى إلى دينٍ إنساني موحد، والتي بشر بها الماسونيون من قبل فلم يجدوا لا آذاناً صاغية ولا قلوباً مفتوحة، حتى أن البابا فرنسيس نفسه لم يلق إلا العتاب والاستنكار من مراتب الكنيسة المختلفة، حين صرح بقولته المشهورة، كل الأديان صحيحة، وهو ما أعلنته الكاتبة على لسان بطلها: كل الناس براء، ولا ألوم إلا أنت: أي المخلص! أما أكثر التوظيفات نشازاً في النص الروائي، فهي قصة المشخص وهو نقد ذهبي بيزنطي يحمل رسمي الإمبراطورين قسطنطين وهيلانة، وهو الذي افتديت به حياة «يحيى»! فهل ترسم لنا الكاتبة طريق الخلاص الحضاري، إن كنا سنبقى على قيد الحياة؟ فلنسر على خطى من سبقونا حتى ولو دخلوا جحر الضب!
في النهاية، تعترف الكاتبة أن بطلها لم يترك أثراً بارزاً، ولا هو علمٌ من أعلام الصوفية، ولكنها استخرجته من بين سطور التاريخ، لأنه سحر لُبها، كيف ولماذا؟ تترك الكاتبة الاستنتاج لذكاء القارئ والقارئة!