من أكذوبة الحياة إلى عالم الموت
من أكذوبة الحياة إلى عالم الموت
كلّ من هم حولي غادروني. لعب بهم الخريف لعبة الفصول فتساقطوا تباعاً من دون إذن أو حتى وداع. بقيت وحيدة على غصن يابس لا أدري ربما كان يستعذب بقائي كما كنت أستعذب عنه الرحيل.
كلّ الأغصان التي كانت حولي تضجّ بالحياة، أوراقها مصابة بالغرور فلا نظرة إليّ ولا حتى زيارة تخفّف عنّي وحدتي. في المساء كانت نسمات الهواء تلعب بين أغصان هذه الشجرة. كانت تساعد العشاق على الالتقاء فتقترب الأوراق من بعضها ويحضن كلّ حبيب حبيبته. كنت أسمع صوت الحفيف الناعم المملوء غزلاً، أنظر إليهم بحزن كامرأة أربعينية غادرتها الحياة مبكرة ولعبت بتفاصيل جمالها فحوّلتها إلى عجوز تنتظر الموت.
هذا القمر وحده ما كان ينظر إليّ دائماً، ينير عتمة ليلي. لم أكن أعطيه أيّ اهتمام فهو لا رأي له. يأتيني تارة وتارة يذهب، وأنا أكثر ما أكره فيه غيابه المتكرّر. وفي الصباح تأتيني الشمس، أعتقد أنها مغرمة به، فربما لمحته من بعيد ينظر إليّ أو ربما حدسها أخبرها أن هناك أخرى في حياته، فكانت ترسل أشعتها إلى وجهي تحرقني بها، لا ورقة تحميني منها ولا ظلّ يشفق على حالي، فيبعد غيرتها عنّي. أنا التمس لها عذراً، فطعم الغيرة مرّ ولطالما تذوّقته، بخاصة عندما أرى عصفورين على غصن آخر يغرّدان لحن العشق أمامي. كم تمنيت لو يلتقيان عندي على هذا الغصن اليابس ولكنه مكشوف لا ورقة غيري يتواريان خلفها، فربما كانا كما كلّ العشاق يلتقيان خلسة.
على الأرض كنت ألمحه، أراقبه، أحفظ جيداً تحرّكاته. إنه الرجل الوحيد في هذا المنزل. فهو مثلي تماماً، لعبت بخطوط وجهه الأيام وتناثرت خيوط الثلج الأبيض على شعره. كنت أشعر بأمرٍ غريب عندما كان يجلس تحت الغصن الذي أعيش فيه ويهزّ بكرسيه فيضرب الأغصان وتهتزّ الأوراق فأرقص بفرح غامر.
رائحة تبغه كانت دائماً تحرقني، ورائحة النعناع فيه تشعرني بالانتعاش. هل هو الحب، لطالما تحدّثوا عن حبّ الإنسان للطبيعة وكم سمعت من القصص والروايات عن ذلك، ولم يعطوا اهتماماً لمشاعر من هم فيها. هل هناك أحد من الطبيعة أحبّ بشراً مثلي؟ لا أريد أن أهتمّ، ولكن كلّ ما أعرفه أنه يحبّني، فنظراته الدائمة إليّ كانت تخبرني بذلك.
بعد شهور اقترب الخريف. إنه فصل الوداع. سأودّع أوراقاً اعتدت على رؤيتها وسأفتقد له. فهو سيلزم منزله يجلس أمام مدفأته التي تلتهب مثلي. فأنا أراقبه جيداً من خلف نافذته، أرميه بنظرة شوق أخفي فيها برودة غيابه.
في ليلة باردة غاب عنها القمر، وغاب هو عن بيته، أضواء ملوّنة تضرب عينيّ، تارة تنير وتارة تنطفئ. أظنها زينة الميلاد، وها قد اقترب رأس السنة، كنت أنتظر قدومه، فربما كان يقضي ليلته مع أصدقائه. وبعد طول انتظار استسلمت للنوم لأستيقظ على أمرٍ يهزّني. فتحت عينيّ، إنه هو يتسلّق سلّمه الخشبي، يحمل في يديه شريطاً ملوّناً وحبلاً من الأضواء الصغيرة.
يا لله، إنه يصعد إليّ يريد تزيين هذه الشجرة. نعم، إنه للمرّة الأولى يفعلها. هل من أجلي؟ يا لسعادتي، فقد خرقت بحبّي له قوانين الطبيعة.
اقترب منّي، دبيب الحنين يلعب بدقّات قلبي. شعرت بأظافره على وجهي وقد حوّلتني لمسة يديه إلى شعلة نار. أطبق على عودي بشدّة واقتلعني من الغصن. قلبي بدأ ينبض ببطء، وللمرّة الأولى ألأألأأشعر أني بحاجة للهروب. وبعدها وبكلّ برود تركني.
كلّ شيء حولي يدور. تارة ألمح الأرض وتارة ألمحه هو، رغم خفة وزني إلا أن دموعي أثقلتني فجعلتني أرتطم على الأرض بقسوة تشبه قسوته. كم افتقدت حينذاك للشمس، فأنا محتاجة لنار غيرتها كي تجفّف دموعي وأهرب قبل أن أراه مجدّداً أمامي، فلا أمان أمام ظلم البشر، ولا قانون يحميني منهم.
من ألمي يغمى عليّ، ريح تحرّكني تجعلني أفتح عينيّ لأجد نفسي بين يديها تحملني بعيداً من أكذوبة الحياة إلى عالم الموت.
مها الشعار