محيي الدين زنكنة على طاولة النقد من جديد… قصٌّ يحتفي بالفكر على حساب الفنّ

شكيب كاظم

هذه قصص قصيرة قرأتها للمرّة الأولى يوم الأربعاء السادس من شباط 1991، ولقد دوّنت على أصل الكتاب أنّ محيي الدين زنكنة فنان مقلّ في نتاجه متمكّن من فنّية القصّة وبنائها، وأحد قصّاصينا العراقيين المجيدين القلائل، وأنّ القصص الأخيرة السادسة الموسومة «اضطرابات في ألوان النهار» والثامنة وعنوانها «طفولة ملغية» والتاسعة التي وسمها زنكنة «الضيوف» من أروع قصص المجموعة هذه، التي شاء كاتبها أن يطلق عليها عنواناً متواضعاً يعكس تواضع نفسه هو «كتابات تطمح أن تكون قصصاً».

وفي السبعينات من القرن الماضي أصدر القاصّ جاسم هاشم العبادي مجموعة قصصية عنوانها «قصص لا تصلح للنشر». كتبت عنها حديثاً نقدياً نشر في جريدة «الراصد» في 22/8/1976، في حين كانت القصة السابعة «قصة تقليدية جداً» التي كتبها زنكنة في خانقين في شهر تموز 1968 وهي اسم على مسمّى، فقد طابق العنوان الفحوى.

هذا ما دوّنته وأنا أسجل انطباعاتي لدى إنهاء قراءة القصص القصيرة التي أصدرتها «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» بطبعتها الأولى عام 1984، وتولّت المكتبة العالمية في بغداد توزيعها. لذا كان يتوجب عليَّ الرجوع مرّة أخرى لقراءة قصص هذه المجموعة التسع وأنا أهمّ بكتابة حديث نقدي عنها. ولقد رأيت أستاذي الدكتور علي جواد الطاهر، يثبت رأيه في هذه المجموعة وقصصها نشره للمرّة الأولى في جريدة «الجمهورية» العراقية في 27/7/1985، ثم أعاد نشره ومقالات نقدية أخرى في كتابه الموسوم بـ«من حديث القصة والمسرحية» الصادرة طبعته الأولى عن «دار الشؤون الثقافية العامة» في بغداد عام 1988، مشيداً بالقصص الأربع الأولى منها قائلاً: ان الذي ألّف «كتابات تطمح أن تكون قصصاً» ومن قرأ له القصص الأربع الأولى تشبث به وطلب المزيد… ص238

والقصص الأربع هذه، تنحو منحى الكتابة الخمسينية المدجّجة بالشعارات والهتاف والسياسة لذا وقف عندها الطاهر منوهاً ومشيداً، هذا اللون من ألوان الكتابة الذي نهج على نهجه: مهدي عيسى الصقر وذو النون أيوب وعبد المجيد لطفي وغائب طعمة فرمان في مجموعته القصصية الوحيدة «حصيد الرحى» في حين اقترب منه وبتوجس فؤاد التكرلي، ولم يقترب منه أبداً القاصّ الفنان، الباحث عن الجديد والمغاير في فن كتابة القصة القصيرة عبد الملك نوري، هذه المجموعة القصصية التي كتبها القاصّ والروائي والمسرحي العراقي محيي الدين زنكنة، حملت هذين اللونين من لونَي الكتابة القصصية الأولى المحتفلة بالرأي والفكرة على حساب الفن، أو على وجه أصحّ من دون احتفاء شديد بالفن، في حين جاءت قصصه الأخرى التي أشرت إليها آنفاً محتفية بالفنّ والبناء القصصي، مغادرة إلى حين، مسألة الراي والتوصيل، وكانت أروعها فنية وأداءً وبناء، القصة التاسعة والأخيرة من المجموعة التي وسمها كاتبها محيي الدين زنكنة في «الضيوف».

قصة قصيرة عالية الفنّ والبناء، فيها شيء من علم النفس، فيها إسقاطات نفسيّة وتوارد خواطر وأفكار، لا بل فيها نوع من أنواع التخاطر، الذي أفاض فيه والحديث عنه علم الباراسايكولوجي، اذ ينفتح الفضاء القصصي لهذه القصة الباذخة الباهرة «الضيوف» على بطل القصة فريدون وهو مستغرق في قراءة قصة «منتهى السعادة» لكاثرين مانسفيلد، وبطلتها «بيرتا يونغ» وهي بصدد استقبال ضيوفها وفي قمة اللهفة ومنتهى السعادة للقياهم، واذ يصل فريدون إلى هذه النقطة، جاءته زوجته تاركة عملها في المطبخ، لتخبره أنها تنتظر هي الأخرى ضيوفاً وعليه أن يغادر كسله وكأسه وكتابه، والزاوية الحساسة التي وصلها وهو يقرأ قصة منتهى السعادة لمانسفيلد ويذهب إلى السوق لشراء ما تحتاجه المائدة مائدة الضيوف، وكان أصعب شيء إلى نفسه الذهاب إلى السوق الذي يحيله إلى كيان لا هو إنساني ولا حيواني حاملاً السلة مطاطئ الرأس واقفاً أمام هذا البائع وذاك، ولأنه لم يكن يحب التسوق، فكانت تجابهه دائماً عبارات لائمة مثبطة تطلقها زوجته، من انك لا تعرف الشراء.

وإذا كانت تطلق لومها من خلال ابتسامة في الأيام الأولى لزواجهما، فإنها غدت تقولها بعد تبدل مناخ الأيام الأولى للزواج بكثير من التأنيب والاستياء.

هي ما كانت تنتظر ضيوفاً على وجه الدقة واليقين، أوهامها ـ وقد عادت من زيارة سريعة لذويها في مدينة السليمانية ـ صوّرت لنسرين قادر أن ضيوفاً سيأتون إليها للسؤال عنها وتهنئتها بسلامة العودة، لكن المفارقة الذكية التي يقدّمها لنا القاصّ المبدع محيي الدين زنكنة إن أيّاً من النسوة اللاتي طرقن الباب عليها، ما كُنَّ منتبهات لعودتها تلك، لا بل ما كنّ يدرين بسفرها إلى السليمانية وعودتها السريعة منها، بسبب ذهاب اختها مع زوجها وأبنائهم الأربعة إلى المصايف وبقائها في المنزل هناك وحدها، ما اضطرها للعودة الى بيت الزوجية، لتجد هذا الزوج المنشغل بمشاريعه الكتابية وكتبه وكأس البيرة التي لا تكاد تفارقه واللفائف التي يواصل تدخينها ورمي أعقابها على الأرض.

وإذ يريها بلوزة جميلة ابتاعها لها، ما ان وضعتها على صدرها، حتى دقّ الجرس، فرمت البلوزة مهرعة نحو الباب لتجد الحاجة «نركز» طالبة منها شيئاً من الثلج! دونما حفول أو معرفة بعودتها من السفر! الأمر الذي يوقعها في أسى وإحباط، هي التي ترغب في ضيوف يهتمون بها ويسألون عنها! وثانية يطرق الباب، فإذا الجارة الخجول «كلناز» جاءت لتخبرها بأن ثمة وجبة من الأقمشة الجميلة معروضة في السوق، وأنها جاءت لتريها ما اشترته، وهي الأخرى ما وقفت عند عودتها من السفر، واذا كانت قد ألمحت «نركز» عن سفرها، فإنها إزاء إصرار «كلناز» على عدم الدخول، بسبب وجود زوجها في البيت وأنها ما جاءت سوى لتخبرها عن وجبة القماش الجديدة الجميلة، أقول إزاء ذلك فإن نسرين قادر قد صرحت لها مراراً عن عودتها من السفر، «وتعرفين طول الطريق من السليمانية الى كركوك، ثلاث ساعات! ولكن لتدخلي.. أرجوك ادخلي، ثم إن السفر متعب». لكن على الرغم من هذا الاستخداء واستجداء الاهتمام، ظلت «كلناز» عند الباب مخبرة إياها بخبر الأقمشة فقط، تاركةً نسرين وحدها تصارع أوهامها من أن النسوة، جاراتها سيسألن عنها، ويحللن عندها ضيوفاً وكذلك «سوزان» المثقفة صاحبة الاتيكيت التي ما أن وقع نظرها على المائدة حتى خرجت بحجة أن نسرين تنتظر ضيوفاً آخرين!! لكن الفنية العالية والضربة الطِباقية التي ما كانت في حساب أحد، إن هناك رائحة خيانة زوجية بدأت تفوح في قصة «منتهى السعادة» التي كان يقرأها فريدون، فزوج بيرتا يونج يخونها مع إحدى ضيفاتها، صارخة ـ يا إلهي ما الذي يحدث لي الآن؟

ليحطّم هذا الزوج الخائن حياتها، هذه اليمامة الأنيسة الوديعة، المفارقة الطِباقية تأتي من ان الزوج، فريدون يغادر منزله إلى النادي، بعد أن رأى توافد أكثر من امرأة على زوجته الواقعة في وهم الضيوف الزوار، عاد في ساعة متأخرة من الليل، على أمل أن يجدها نائمة فينجو من حديث آخر مزعج عن الزيارات والضيوف، وما أدهشه وقد وجدها في الحديقة وهي تورق كتاباً، وإذ حاول معرفة عنوان الكتاب، فأنها لم تدعه يتمكن من ذلك، كانت قد قرأت القصة، ووقفت عند عملية الخيانة الزوجية التي مارسها زوج «بيرتا يونج» جعلها هذا تشكّ فيه، ولماذا لم يسافر معها وهي تزور ذويها في السليمانية، متذرعاً بانشغاله بمشاريعه الكتابية؟ إذ لم يكد يخطو بضع خطوات مغادراً الحديقة نحو البيت حتى فأجأه صوت ارتطام، التفت فأذا بها قد قلبت المائدة «لم أبال… واصلت سيري نحو الغرفة، إلا أنها تبعتني… بسرعة وهي في حالة هستيرية فظيعة:

ـ أعترف… إنك كنت تريد الضيوف أكثر مني… بالرغم من تصنعك الصمت واللامبالاة.

لكي يحدث لي ما حدث لبطلة قصتك..

وقذفت الكتاب في وجهي بقوة، وشراسة و، و، ولّت هاربة. ص 108.

كاتب وناقد عراقيّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى