هل أتقن كيم لغة العصر الأميركي…؟
محمد ح. الحاج
من اللافت والممتع متابعة لقاء عملاقين على المستوى العالمي، هو اللقاء الأول من نوعه بما أثاره من تكهّنات، وما رافقه من غرابة اللقاء، حيث إنّ العملاق الأميركي كرّسه العالم بعد الحرب الكونية الثانية بما ارتكب من جريمة سجلها العصر، واستمرّ مدّعياً مساعدة دول العالم بينما هو ينهب ثروات شعوبها وينصّب حكامها حراساً لمصالحه، ويبدو أنّ سلوكه أجبر أطرافاً أخرى ودفع بها للبحث والتجربة لمجاراته وتوفير معادل إنْ لم يكن للانتصار عليه فعلى الأقلّ لردعه. وهكذا تمّت قسمة العالم التي أوجدها الأميركي، ألمانيتين، وكوريتين وفيتنامَيْن وهكذا… الناتج إقامة حلفين غربي وشرقي. وهنا بدأت متاهة العالم المتخلّف الذي أسموه عالماً ثالثاً! العملاق الآخر قائد دولة صغيرة، فقيرة، لكنها قرأت، واجتهدت، بعيداً عن الأضواء ونجحت.
ليس مهمّاً الحديث عن عالم غير منحاز، فهو لم يتجاوز التسمية، إذ كانت أغلب الدول تستظلّ جناح أحد المصارعين، ولما تزل، كان حلف الشرق يقف مع الدول المستضعَفة والمستهدَفة، في حين تولى الغرب حماية الدول الدائرة في فلكه حتى وهي تسمّي نفسها من عالم عدم الانحياز، البعض منها وهي بطبيعة الحال دول كثيفة السكان مثل الهند وماليزيا وغيرها اجتهدت لتخرج من عالم الوصاية وتوجد لنفسها موقعاً عالمياً ولو في النسق الثاني. ورغم فقر بعضها فقد وصلت وأوجدت لنفسها موقعاً لم تكن ترغب الولايات المتحدة أن تصل اليه لتحمل تسمية دول نووية، منها الهند والباكستان وسبقتهما الصين بمعونة شرقية، وكان أمراً عادياً مع تقدّم العلوم والأبحاث والقدرة على خرق الأسرار، وبقيت دول كثيرة تحاول ويجري منعها وعرقلة أبحاثها، ومنها العربية بشكل خاص حتى لا تحقق التوازن مع الكيان الصهيوني الذي وصل بالمعونة الفرنسية إلى توفير السلاح النووي الذي يهدّد به ما ومَنْ حوله والدول التي تحاول إنهاء هذا المشروع الاستيطاني السرطاني أو على الأقلّ تحقيق العدالة عن طريق إقامة «دولة فلسطينية». منع الانتشار النووي أو ما أسموه اتفاقية دولية وضعها الغرب بالاتفاق مع الشرق للحدّ من طموحات الدول التي لا يرغبون بوصولها ولو اقتضى الأمر مهاجمتها وتدمير منشآتها، وقبل ذلك زرع العملاء في أجهزتها واللجوء إلى تصفية علمائها، كما جرى لمصر والعراق ودول عديدة أخرى، الغرب الذي صمتَ طويلاً وأنكر حيازة الكيان الصهيوني للسلاح النووي حتى فضحَهُم أحد العاملين في البرنامج الصهيوني فعنونو . وذكر أنّ مخزون العدو يزيد على مئتي قنبلة نووية وهذه كافية لتدمير العالم.
الكيان الصهيوني بغطاء أميركي تولّى عمليات تخريب البرامج لكثير من الدول المذكورة، بينما قام الأميركي باحتواء دول بعيدة، كما في حالة جنوب أفريقيا وباكستان، وما يقوم به حالياً من محاولات لإجهاض البرنامج النووي الإيراني رغم إعلان سلميته وتأكيد المسؤولين الإيرانيين على تحريم حيازة سلاح نووي أو استخدامه وحتى التهديد به.
ما كان بعيداً عن الأعين هو البرنامج الكوري الشمالي وإنْ لم يكن بالمطلق، الأغلب أنّ الصين كانت توفر المساعدة ولم تكن من الدول المعترضة إذ تشكل كوريا الشمالية حليفاً للدولة الصينية منذ منتصف القرن الماضي إبان الحرب الأميركية في جنوب شرق آسيا. وإذا كان القاموس السياسي الأميركي يصنّف كوريا بأنها من دول محور الشر فلأنها خارجة على الإرادة الغربية يدعمها موقف داخلي عصيّ على الاختراق وزرع الجواسيس لكشف أنشطتها وأيضاً إعلانها العزم على إعادة توحيد كوريا وطرد الأميركيين خارج جزئها الجنوبي.
أن تشكل الدولة الفقيرة كوريا الشمالية خطراً حقيقياً على الغرب أمر لا تقبل به الإدارة الأميركية، وهو ما دفع بها إلى شنّ حملة تشويه وشيطنة للدولة الكورية واتهامها بدعم الإرهاب حول العالم، حيث إنّ كلّ حركات التحرّر بالمفهوم الأميركي هي إرهاب وعلى رأسهم الفلسطينيون والدول التي تدعمهم، أما التنظيمات التي أوجدتها الاستخبارات المركزية الأميركية بالتعاون مع بعض الدول الدائرة في فلكها، خصوصاً تلك التي حاربت الوجود السوفياتي في أفغانستان القاعدة وكذلك في الشيشان وجمهوريات أخرى فقد أطلقت عليهم صفات المجاهدين والمقاتلين من أجل الحرية.. والحقيقة أنّ كوريا الشمالية لم تكن قادرة على مساعدة أيّ من حركات التحرّر العالمية، بل اقتصر تعاونها مع بعض الدول في تطوير برامج الصواريخ وأساسها روسي أو صيني، ومن هذه الدول كانت سورية.
في السنوات الأخيرة ارتفعت حدة الهجوم السياسي على النظام الكوري الشمالي، وفرضت معظم دول العالم الغربي عقوبات مشدّدة. وفي مختلف المجالات على النظام الذي لم يتأثر كثيراً بسبب اعتماده على الصين الدولة صاحبة الاقتصاد الأقوى. وهي الدولة الدائنة للإدارة الأميركية ذاتها… – عملاق العالم – التجارب النووية والصواريخ البالستية بعيدة المدى وما ترافق معها من تهديدات متبادلة وردود أفعال دولية شكل حالة ضاغطة لإيجاد حلّ ما. ويبدو أنّ قراءة الاستخبارات المركزية ومراكز البحوث تطابقت وأجمعت على ضرورة التوجّه نحو المفاوضات كمخرج وإطلاق وعود ذهبية طالما التهديد الكوري لا يصل إلى الشرق، حيث يتموضع المشروع الأهمّ والذي يستثمر فيه الغرب بكامله. كوريا لا بدّ من استيعابها وإغراء قيادتها بالمعونات والضمانات وأكثر مما تطلب وكان على الدولة الصينية أن تعمل بجدّ لتهيئة أجواء اللقاء، وبدا أنّ هذا ما حصل إذ ليس من مصلحة الصين ولا أيّ من دول المنطقة قيام حرب عبثية لمجرد التحدي.
تابعنا كما الكثير من المراقبين مجريات اللقاء، ورأينا كلّ من وجهة نظره تفاصيله بدءاً من الوجوه المترقبة، والخطوات ذات الوقع العصبي ثم المصافحة التي لم تكن عادية بل اتسمت باستعراض قوة جسدية حيث حرص ترامب على شدّ يد كيم نحوه ورفعها إلى الأعلى لإظهار فارق الطول بينهما، لكن محاولته هزّ اليد بعنف لم تنجح إذ بدا كيم متماسكاً، وربما لاحظ البعض حرص كيم على تجاهل يد ترامب في مرتين متباعدتين إذ كان ينظر نحو الكاميرات بينما يُعيد ترامب يده، ليأخذ كيم المبادرة ثانية، وإذ ربّت ترامب على ظهر كيم مرة بعد المصافحة ومحاولة الانتقال إلى موقف آخر فقد ردّ كيم التحية وربّت على ظهر ترامب وهما يسيران…
حلّ الخلاف الأميركي الكوري الشمالي ليس بهذه الصعوبة، فقد يمكن لأميركا استيعاب القوة الكورية بطريقة دبلوماسية، رفع العقوبات عن كوريا الشمالية، مساعدتها اقتصادياً، منح دراسية… ولكن بالتنسيق مع العملاق الصيني.
بالنتيجة يمكن القول إنّ كوريا الشمالية قرأت أحداث القرن الماضي بشكل صحيح وسلكت الطريق رغم تكلفته الباهظة، وصلت لتكون رقماً صعباً لا يجرؤ الأميركي ولا غيره على تهديده، وهو وإنْ وافق على نزع سلاحه النووي لقاء ثمن مرضٍ، فسيظلّ الرقم ذاته لن يسقط، هكذا هو عالم القوة، دولة ندّ لأعظم القوى، وليست تابعاً كما في حالتي مصر وباكستان. أما إيران فإنها واصلة لا شك، وستحقق ذاتها وموقعها طالما حافظت على مبدئية موقفها دون تراجع… القوة وحدها هي القادرة وهي الكلمة الفصل في إحقاق الحق القومي لأيّ من دول العالم.