«هذيان ذاكرة»… قصّة أنثى رقصت لحن الموت

نسرين بلّوط

نيرمين الخنسا في روايتها «هذيان ذاكرة»، التي تبدأ بالتحدّث عن ارتجافاتها الداخلية، بحلم مدقع البؤس يصيب البطلة دائماً، ويثير الرعب في قلب القارئ، بأسلوبٍ تشويقي، يَعِزُ بقراءة المزيد، لتتجه به تدريجياً وتجلو حقيقة الخوف المدمّر الذي سكن بطلتها منذ طفولتها.

الكاتبة تشدو بنغم فيرزويّ لقب البطلة «يارا» التي تولد في ضغط اجتماعيّ وعائليّ هائل، من أب يفرض سلطته، ويسنّ شرائعه في تفضيل الذكر على الأنثى، وأمّ لم تستطع أن تتجاوب مع نزعة الأب المازوكية البحتة، ولم تلد له إلا الإناث، فثار عليها وانتظر حتى تتزوّج أختها «نهاد»، التي أرغمت على الأمر مع أنها لا تحبّ عريسها وهو ابن عمها في الوقت نفسه، فيجبرها والدها آمراً، بخاصّة بعد أن سبقتها إلى الزواج أختاها «وداد» و«علياء»، ويعلن قراره بنيّته الزواج من «لاوند» وهي فتاة في الثلاثين من عمرها مغرية وجميلة، علّه ينجب منها الذكر المنتظر.

تلهث الأحداث بخطى سريعة في عرس «نهاد»، التي كانت ترتدي فستان العرس مرغمة تنشج بقمع أنثويّ مرير، فبحضور «لاوند» إلى العرس تصعد الأمّ سريعاً إلى السطح لتواجه الأب، وتتعقّب خطاها «يارا» ـ بطلة الرواية ـ من دون أن تدري، وقد كانت طفلة لا تتجاوز التاسعة في ذلك اليوم المشؤوم، وتهدّد الأمّ الأب بالانتحار فتتسلّق حافة السطح وتتدلّى ساقاها بشكلٍ خطير، فتسرع يارا لتمسك بإحدى قدميها ويقوم الأب بجذب الأمّ من يدها، ويأمر الطفلة أن تسرع لإحضار النجدة. في اللحظة التي تقف فيها «يارا» على قدميها بعد تردّد موجع، متأهّبة للركض كما أمرها والدها، يفلت الأب يد الأمّ فتسقط عن السطح وهي تصرخ بصوت جهوريّ هزّ الكون في نظر طفلتها، ولازمها بشكل مأسويّ على شكل حلم حتى النهاية.

تكبر «يارا» وهي تتساءل إن كان والدها قد دفع أمّها إلى الموت، أو أنها توهّمت هذا المنظر البشع، وأنه كان يحاول أن يجذبها إلى الحياة، ولكن يدها أفلتت من يده… هذه الضربة القاسية أثّرت في التكوين السيكولوجي لدى الطفلة، التي شهدت ما يعجز القلب عن تصوّره، وهنا تطغى فلسفة الغائية المدمّرة. فالعلّة كامنة وراء التغيرات والتقلبات كلّها، حتى المنطق المتغلغل في السلوك الإنساني يضعف أمام هذا المنهاج، ونرى الأبطال يحدّدون غاياتهم في اللاوعي إنّما بطريقة واعية، في الوقت نفسه. ويصبح المذهب الغائيّ مذهباً آلياً يتحكم بالمصائر جميعاً، فالأب يتزوّج من «لاوند» بعد رحيل الأمّ، ولكنها تنجب له ذكوراً يموتون بعد ولادتهم على الفور، فيقوم بتطليقها ويهاجر إلى الجنوب ليتزوّج من أرملة ميسورة تمتلك قطعة من الأرض لتوفّر له الدخل الإضافيّ. و«نهاد» التي كان من المفترض أن تتوّج عروساً، وتنتحر أمها في يوم زفافها، تهرب بعد أيام من جور الأب الذي فرض عليها زواجاً لا ترغبه، وتتلاشى بعد هذا ولا تظهر حتى في نهاية الرواية، وقد شبّهها الآخرون بجدّتها التي فعلت الأمر نفسه عندما هربت بعد زواجها وإنجابها بوقت قصير.

أما «يارا»، ففي البداية تكتنفها الأختان «وداد» و«علياء» بعنايتهما وتتقاسمان مسؤولية تربيتها، حتى تنتقل «وداد» للعيش في منزل أبيها بعد هجرته إلى الجنوب، فتثور «علياء» على احتلالها بيت والدهما، وتحمّلها مسؤولية «يارا» كاملة.

تنشأ «يارا» في كنف «وداد» مع ضجيج أطفالها الذين لا يهدأون، وتعهد إليها أختها بعد أن تترك مدرستها لرسوبها المتكرّر فيها بأعمال المنزل، ولكن قوقعتها وانزواءها يلفتان نظر الجميع، فتجد أختها لها عملاً في إحدى دور الحضانة حتى تتلهّى عن ذكرياتها المريرة التي أبصرتها يوم انتحرت أمها، وضاع قلبها معها. وتتعرّف إلى «جاد» وهو يشتري الفطائر من الفرن المقابل للمدرسة ويعرض عليها عواطفه، فتنأى عنه بالصدّ تارة والتقرّب تارّة أخرى، وترفض مطارحته الغرام جسدياً، وتطلب منه الزواج فيصرّ أن تمنحه الوقت.

هنا ينبثق المرض السيكولوجي الخطير لدى البطلة، وقد نجحت الكاتبة في إبرازه بشكلٍ مبطّن ولكنه لافت، فبعد أن تسافر أختها «وداد» مع أطفالها لزيارة زوجها الذي يعمل في الخليج، ويراودها الحلم المفزع الذي تبدأ به الكاتبة روايتها.

تقرّر «يارا» أن تذهب إلى «جاد» وتعلن له موافقتها على الزواج منه، وقد نسيت في الباطن أنها من عرضت هذا الزواج وأنه من تردّد. طبعاً تكون المقابلة مع «جاد» جافّة، ويعلن لها انتهاء العلاقة، فتعود أدراجها إلى الخيبة والألم النفسيّ المتأصّل في عمقها الباطنيّ، فتصعد إلى السطح وتقوم بمدّ ساقيها بالطريقة نفسها التي فعلتها أمّها، متسائلةً: هل كانت يد والدها تشدّ أمّها نحو الحياة أم تدفعها إلى الموت؟ وتنتهي الرواية بإعلان البطلة نيّتها اللحاق بأمّها، ما يرجّح فرضية انتحارها هي الأخرى في النهاية.

السيكولوجيا النفسية تتجلّى بشكلٍ جميل ورائق في الرواية، تظهر الكاتبة فيه القمع الذكوريّ للمرأة الشرقية، فتخطّ أهزوجة الموت التي تترنّم على شفاه الأنثى الشرقية المعذّبة، خلف القصص المنزلية المخبّأة التي لا تظهر للعلن، وهي موجودة بكثافة ومنسوجة بواقعية بحتة.

نيرمين الخنسا روائية سبرت جنون المجتمع الشرقيّ واستنجدت بالسيكولوجيا اللامرئية، كما فعل تشيخوف ودوستويفسكي ونيتشه وغيرهم بمنطق واقعيّ صارم.

روائية وشاعرة لبنانية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى