هذا هو العهد القويّ…
د.رائد المصري
بهدوء… المتطلِّعين إلى الواقع اللبناني منذ انتخاب الرئيس ميشال عون، نلاحظ أنه كَثُرت تردُّدات مفردات كالعهد القوي والمحاسبة والشفافية وضرب الفساد ولبنان القوي والسيادة القوية، وغيرها من النُّعوت التي أرادها وتقبَّلها وتمنَّاها دائماً الشعب اللبناني الجبَّار ليعيش بما تبقّى له من قصر العمر عزيزاً مكرَّماً في بلده. وهي مقولات شكَّلت حلماً راود الجميع منذ اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية إلى اليوم ولم تتحقَّق… لنستعرض خيبات السياسة والسياسيين السيّاد والعبيد منهم، الاستقلاليون والانهزاميون الفاسدون والعصاميون، فتكتمل صورة لبنان المستقبلية بالعهد القوي وبالأدوات الخارجية التي ما زالت تحرِّض وتنخرط في مؤامرات إقليمية تُعيد إحياء مشاريعها التدميرية والميليشياوية والطائفية والمذهبية من جديد، حيث يشكِّل التعثُّر في توليفة الحكومة الجديدة المزمَع تأليفها خير دليل على ما ورد وذكر…
فليس مصادفة الحديث عن واقع بعلبك الهرمل لناحية الوضع الأمني المتفلِّت المتوازي مع الحرمان المزمِن منذ الاستقلال إلى اليوم، وتكرار الحوادث اليومية التي يموت بنتيجتها العديد من المواطنين. وهي بالمناسبة حوادث صارت يومية منذ أن فُتِح الملف الأمني لبعلبك الهرمل والرغبة في ضرورة معالجته، ولا زالت الدولة قاصرة وعاجزة وضعيفة حيال طرق وأساليب ضبط الأمن، حيث بات الوقت يُداهِم الجميع ويضغط على كتلة نواب المقاومة ليُظهِّروا صورة العجز المباشرة في بيئة المقاومة وحزب الله، ولتنفَّذ الأجندة السياسية التي خسِرها خصوم المقاومة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة وتظهير أبناء منطقة بعلبك الهرمل إما هم مطلوبون وفوق القانون وتتوجَّب محاسبتهم، أم أنهم يحظون بتغطية حزبية وبيئة حاضنة، وفي كلتا الحالين هو ضرب للعهد القوي ولكلِّ المنجزات التي تحقَّقت أو التي هي على الطريق..
ويشكِّل أيضاً التعثُّر في تشكيل الحكومة مسماراً آخر وكبيراً في مسيرة العهد التي يُفترض أن تكون قوية، من قبل قوىً سياسية تعتبر وتتشبَّث وتريد أن تنفخ أحجامها التي ظهرت بعد الانتخابات. وتستثمر هذه النتائج وفق صياغاتها السياسية الخاصة بها والرهان على مشروعها القاتل في سورية. فهي تتصلَّب في مواقفها جرَّاء فرض وزيادة حصصها الوزارية، علماً أنَّ هذا الأمر ليس ذا أهمية، إذا كنَّا نتطلَّع لإزالة الخطر الاقتصادي الذي بات يُنذر بانهيارات في البلد على الطريقة الأردنية، لكن ولإرادة خارجية إقليمية تتعنَّت القوات اللبنانية وتمتنع عن تقديم أيِّ تنازلات بهذا الشأن. وكذلك التقدمي الاشتراكي بعد زيارته الأخيرة لدولة خليجية. وكلٌّ له هدف وحيد: هو تقويض العهد ومسيرته وإبعاده عن الدخول في ملفات حسَّاسة كالفساد والرشاوى والأدوية الفاسدة والكسارات والسوكلين والأملاك البحرية وغيرها… ممَّا يشكِّل حصانة للتكتُّلات المذهبية الطائفية والتي بنى عليها هؤلاء السياسيون كلَّ أمجادهم لتتوارثها أجيالهم جيلاً بعد جيل وبعد قرار حزب الله والمقاومة الاهتمام بهذه الملفات ووضعها كأولوية وطنية أساسية …
هي قوى سياسية حَمَلت الكثير من الغيظ والحقد على الوزير باسيل منذ سنوات وتريد الثأر منه، لموقفه في حماية لبنان وسورية في الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي ولمواقف رئيس الجمهورية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأخيراً للموقف المتقدِّم والجريء بخصوص قضية النازحين وضرورة إعادتهم الى قراهم وبلداتهم السورية بعد استتباب الأمن، وليس من بوابة التسويق لمشروع سياسي، بل من باب التلازم مع مسيرة وتطوّرات الحرب على سورية كانت هذه المواقف التي حيَّدت لبنان وحمَته وكبَّلت بعض المنتفعين من أزمة سورية وضربها وتفتيتها والعيش كالعوالق على دم الشعب السوري ونازحيه، للتصويب على الدور السياسي للدولة السورية وعلى بسط سيطرتها وسيادتها وأيضاً من خلال الاستثمار الرخيص عبر المنظمات الأممية المعنية بشؤون النازحين السوريين في لبنان، كعمل تجاري مربح لعاطلين ومعطلين من العمل السياسي والاقتصادي ومرتبطين بدول إقليمية لم تنهِ ما في جعبها من مؤامرات دنيئة ومقزّزة على الشعوب الفقيرة والمظلومة…
لم نستغرب القرار الحكيم لسيِّد المقاومة إيلاء الأهمية في ملفاته لضرب الفساد والفاسدين والمرتشين وبناء دولة قوية وعادلة، تحفظ كرامة الناس والمواطن وتحميه في عيشه الاجتماعي، لكن دون ذلك عقبات كبيرة وخطيرة يمكن أن توظَّف في عرقلة مشروعه المقاوم، خصوصاً أننا نتحدَّث عن قوى سياسية لا زالت مستعدة أن ترهن أمها وأبيها وكرامتها وعرضها في سبيل إرضاء الخارج سواء الأميركي أو الخليجي او الإسرائيلي إن لزم الأمر، والدلائل كثيرة وعديدة ومتعددة. فالبعض يعتبر أنّ مسيرة ضرب الفساد في لبنان يُنهي مفاعيل حكمه القائم على العصبويات والتكتلات المذهبية والطائفية ويُنهي المحاصصات المكرًسة منذ إنشاء هذا الكيان المريض، ليفرض أنماطاً اقتصادية ريعية آنية ربحية تعالج المشاكل الاقتصادية مياومةً، وتعود لتخضع النظام الاقتصادي لسيطرتها المباشرة ولتدفيع المواطنين الفوائد العالية وخدمة ديون عمالتهم باستجرار التدخل والسماح بالتدخل في شؤون لبنان الداخلية، حيث شكّل الرئيس الحريري النموذج الأفضل وكان قبله السنيورة المعلم الأول، واليوم تتتلمذ قوتان سياسيتان وتتخرَّجان بتفوق ملحوظ في خدمة المشاريع الخارجية الإقليمية منها والدولية، ونقصد بهما القوات اللبنانية والتقدمي الاشتراكي، واللذين بات عندهما الاستعداد الكامل لتقديم كلّ أوراق الاعتماد أمام الخارج مقابل عدم التنازل عن موقع أو وزارة خدمة للصالح العام ولمسيرة الدولة وقطعاً للطريق على أية مساومات…
هي مسيرة وطن أظهرت خبْثَها وولاءها للخارج من قبل سياسيين ارتضوا العودة إلى لبنان محمَّلين بحقائب المال بغرض التوظيف الرخيص. وهذا يعود بنا بالذاكرة وليس بعيداً عمَّا حصل في اجتماع مكة لانتشال الأردن ونظامه السياسي الوظيفي من محنته وتقديم فُتات الريوع المالية لمعالجات اقتصادية آنية ظرفية بانتظار ما ستؤول اليه أزمات المنطقة في سورية والإقليم… إنه العهد القوي… فهل تقبلون به؟
أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية