الخوف وأشياء أخرى
عبد الرازق أحمد الشاعر
الخوف مارد من هلام تفرزه غدة فوق الكلية، وسحب من خيال. وقد ورثنا هذا الضيف الثقيل من حكايات الجدة وأغطية الفراش المعتمة وأصوات المطر وصفق الأبواب في الليالي الراعدة. سمعناه في صوت النداهة ورأيناه بأم وحدتنا حورية تمشي فوق الماء، أو ذئباً يعوي في الخلاء.
والحقيقة أنني لا أعرف سرّ العلاقة الوثيقة بين الخوف والظلام. لكن جدّتي العجوز هي التي عقدت حتماً قران الخوف بالظلام في قاعة مخيّلتي الطفولية قبل أن تترك إرثها وترحل للأبد.
وكبرنا، لكننا لم نستطع أن نتمرّد على مسلّمة الخوف، وظننا سفهاً أنه كائن ضخم يتربّص بنا عند كلّ ناصية مظلمة. ولأنني قد عشت ردحاً من الزمن ولم أر الخوف بأمّ عيني. ولم أصادف في طرق الحياة الشبح ذا الرداء الأحمر، ولا الدمى التي تتمرّد على خيوطها وتتربّص بسكان القرية الدوائر. ولم أر آذان الحائط التي لطالما خوّفني بها أبي. لم أشهد لعنة الفراعنة ولم ألتق يوماً بجنّ أحمر أو أخضر أو وردي. لكنني رغم كلّ هذا، أعترف أنني لا أستطيع التحكم في مستويات الإدرينالين كلما سمعت صوتاً مفاجئاً في الظلام.
يُحكى أنه في قرية من قرى التاريخ الآمنة، بعث الله مارداً شرهاً، يأكل كلّ مَن يلتقيه في طريقه، مما أثار الفزع في نفوس سكان المنطقة والمناطق المجاورة، وقرّروا أن لا يخرجوا من بيوتهم ليلا إلا لحاجة. وذات جسارة، قال أحدهم: «لا يجب أن نفرّ من المارد، ونحن أولو بأس وقوة. تعالوا نتربّص به، فإذا ما أتانا في جنح الليل كعادته، خرجنا عليه جميعاً، وضربناه ضربة رجل واحد». لكن أهل القرية سخروا من فكرته الرعناء، وتركوه للظلام والخوف وحده. فلما جاء المارد، هزّ صاحبنا رمحه، وألقاه بكلّ قوة في كبده، فخرّ المارد صريعاً. فنادى الرجل في مَن أحكموا إغلاق أبوابهم على مخاوفهم المعتقة أن اخرجوا فقد مات المارد. لكن أهل القرية الذين ورثوا الخوف كابراً عن كابر تنادوا من وراء جدر أن لا تخرجوا، فمَن قتل المارد أحقّ بالخشية. لا تخرجوا وإلا فتك بكم كما فتك بالمارد. فقال صاحبنا: «لما قتلت المارد، لم أجد خوفاً بداخله. الخوف بداخلكم أنتم».
وفي «الغرفة الحمراء»، يحكي «هربرت جورج ويلز» قصة مشابهة عن بطل يقرّر أن يتحدّى أسطورة الأشباح التي تسكن الغرفة الحمراء بقلعة «لورين». ويذهب صاحبنا لينام في الغرفة المسكونة وحده رغم تحذيرات حراس القلعة، ورغم الروايات المتداولة منذ زمن عن جنّ يسكن الغرفة الحمراء ويفتك بكلّ من تسوّل له نفسه المكوث فيها ولو لليلة واحدة. أخذ الرجل حزمة من الشموع وعلبة من الثقاب، وأغلق باب الغرفة بإحكام، وجلس ينتظر ذلك الشبح المزعوم.
ومرت ساعة وساعتان، فتململ صاحبنا وأخذ يدور في الغرفة جيئة وذهاباً، ثم جلس مرة أخرى في زاوية الغرفة ليحدّق في الفراغ ويراقب الشموع التي أخذت تنطفئ واحدة تلو الأخرى في رتابة. لكن الظلال كانت تنتقل من حيّز إلى آخر، وتتقافز من ركن إلى زاوية كلما انطفأت شمعة. وبدأ أدرينالين صاحبنا يرتفع حتى هزم شجاعته، ورسم خياله المرتعب ظلالاً شبحية لكائنات هلامية، فقفز من مكانه فجأة ليجد الباب، لكنه اصطدم بالسرير، فارتدّ ليضرب الحائط برأسه في عنف. وما هي إلا لحظات حتى كان صاحبنا ممدّداً فوق أرضية الغرفة الحمراء فاقد الوعي ليكرّس أسطورة الغرفة المسكونة من حيث أراد تفنيدها.
قطعاً لا يريد أحد أن يصدّق قاتل المارد ولا بطل «ويلز» لأنّ تصديق الأوّل أو عدم تكذيب الآخر من شأنه أن يهدم تراث الخوف الذي تربّينا عليه من نعومة أحلامنا.
لا يرغب أحد أن يكذّب المارد الهلامي الذي استطال وتمدّد في منطقتنا حتى غطى سماواتنا الكآبية الحزينة، ولا يريد أحد أن يكذب أسطورة الجيش الذي لا يُهزم لأنّ أحداً لا يريد أن يقتحم غرفته الحمراء المفروشة بدماء أهلنا وذوينا.
كلنا ننتظر ذلك الشجاع الذي سيختبئ وحده قرب الحدود، ليرمي رمحه المسنون، فيصيب مخاوفنا في مقتل.. وحتى لو جاء فجأة، فهل تُرانا نخرج معه لنقاتل مخاوفنا في العراء؟
لا أعتقد.
Shaer129 me.com