الحرّية الفرديّة تتحقّق بكسر القيود حتّى الدينيّة منها

جورج كعدي

الحرّية الفرديّة، الجنسيّة بخاصّة، مسألة جوهريّة ومركزيّة لبعض «اليوتوبيّين» الذين اهتمّوا دوماً منذ زمن أفلاطون بقضايا الجنس الحرّيات الجنسيّة في الحضارة الإغريقيّة مثيرة جداً للاهتمام . ولو قفزنا في الزمن لألفينا كذلك اهتمام الفلاسفة الفرنسيّين القويّ في القرن الثامن عشر بالمسائل المتعلّقة بالجنس، بيد أنّهم كانوا بعيدين تماماً عن النظر إليه وسيلةً للتناسل ذاك ما ركّز عليه اليونانيّون الأوائل ، إذ كان بالنسبة إليهم أمراً يمكن الاستمتاع به لذاته، معبّرين عن رفضهم الشديد للقيود التي فرضتها الأخلاق الدينيّة، فسعوا إلى تدمير جميع القواعد الأخلاقيّة المنظّمة للعلاقات الجنسيّة، وعبّروا عن تمرّدهم هذا في القصائد والروايات «الشبقيّة» التي لم يُظهر كتّابها حَرَجاً في ذلك ولم يروا فيها ما يحطّ من قَدْرهم أو من منزلتهم الأدبيّة. وبين هؤلاء الكبير ديدرو 1713 ـ 1784 الذي اعتبر أن الإنسان البدائيّ كان متحرّراً من القوانين الدينيّة والأخلاقيّة، وأنّه عاش حياة سعيدة لم تعرف الترف ولا المِلْكيّة ولا التقيّد بزوجة واحدة.

لكن، ما من كاتب في القرن الثامن عشر يفوق الماركي دو ساد De Sade 1740 ـ 1814 في تعبيره الحاسم عن استحالة التوفيق بين الدين والقواعد الأخلاقيّة من جهة، والحرّية من جهة أخرى، عارضاً في كتابه «فلسفة في المخدع» للمبادئ التي ينبغي أن توجّه المواطنين في دولة حرّة. وفيما حاول بعض الـ»يوتوبيّات» التوفيق بين الأفكار المتعلّقة بالمساواة، والإيمان المسيحيّ، كان ساد مؤمناً باستحالة تحقّق المساواة ما لم يتخلّص الناس من نير الدين، حاضّاً الفرنسيّين على تحرير أنفسهم بأنفسهم قائلاً: «آه! إنّ الفأس في أيديكم، فوجّهوا الضربة النهائيّة لشجرة الخرافة، ولا تقنعوا ببتر الفروع، بل اقتلعوا العشب الذي استفلحت أضراره المعدية، كونوا على وعي مطلق أنّ نظام الحرية والمساواة الذي تسعون إلى تحقيقه يتناقض تماماً مع المهيمنين على الكنيسة، فليس فيهم فرد واحد يؤمن به أي بنظام الحرّية والمساواة على نحو صادق، ولا فرد واحداً يرتدع عن إسقاطه لو تمكن من السيطرة على ضمير الشعب… بادروا إذن إلى القضاء أبديّاً على ما قد يدمّر جهدكم، وطالما أنّ ثمرة جهودكم ستحفظ لذريّتكم وحدها، تأكدوا أنّ واجبكم وضمان بقائكم يفرضان عليكم ألاّ تتركوهم يسمّمونها بتلك الجراثيم الخطيرة، التي قد تهوي بهما إلى ظلمات الفوضى التي نجونا منها بصعوبة. إن تحيّزاتنا السابقة بدأت تتلاشى، وأدعياء الإيمان الذين هجروا المأدبة الرسوليّة، يتركون الخبز المقدّس لتأكله الفئران. أيّها الفرنسيّون، لا تتوقّفوا عند هذا الحدّ، فأوروبا كلّها تنتظر منكم أن تمزّقوا العُصابة التي تغطّي عينيها، أسرعوا، لا تسمحوا لروما المقدّسة ـ التي تبذل محاولات محمومة لتعويق جهودكم ـ بأن تستبقي القلّة التي دخلت في عقيدتها. اضربوا بلا رحمة رأسها المتغطرس المترنّح، ولن يمرّ شهران حتى ترخي شجرة الحرّية ظلالها على حطام كرسي القدّيس بطرس، وتغطّي أغصانها المنتصرة تلك الأوثان المسيحيّة البائسة كلّها، التي رُفعت بوقاحة فوق رماد رجال من أمثال كاتو وبروتوس».

فيما ذهب معظم الـ«يوتوبيّين» إلى أنّ الغاية الوحيدة من الزواج هي التناسل والإنجاب، وفقاً لقانون الطبيعة، رأى الماركي دو ساد أنّ إشباع الحبّ الجسديّ فعل طبيعيّ لا يجوز تقييده بطقوس الزواج والأحكام المسبقة، داعياً إلى هدم نظام الزواج وقيوده، حاضّاً الرجال والنساء على ممارسة الحرّية المطلقة في المتعة الجسديّة بغية «إسعاد الجميع»، فهذه في نظره هي القوانين الحقيقية للطبيعة، لا قوانين الزواج والتناسل والإنجاب.

لم تقتصر «يوتوبيا» ساد المتمرّدة والجريئة على نواحي الحرّية الفرديّة والجسديّة، بل له رؤيته في السياسة والحكم أيضاً وهو ضدّ النظام الملكيّ ومع الدولة الجمهوريّة. يقول: «من المستحيل لدولة حرّة أن تتصرّف مثل العبد بين يدي ملك مستبدّ، فالكمّ الرهيب من الأخطاء التافهة والجرائم الاجتماعيّة الصغيرة ـ التي كان يُنظر إليها باهتمام شديد في ظلّ حكم الملوك ـ لن يكون لها أيّ معنى، وستختفي الجرائم الأخرى البشعة، مثل قتل الملوك وانتهاك حرمة المقدّسات، في ظلّ حكومة لم تعد تعرف الملوك ولا الدين، أيّ في ظلّ دولة جمهوريّة … ». يتبع .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى