روبرت فيسك: من أرض المذابح… محاولات للعثور على آخر الأرمن في تركيا

«متلهفٌ منهكٌ انقطعت أنفاسه جراء محاولات العثور على أسلاف شعبه وأحفادهم»، هكذا وصف الصحافي البريطاني روبيرت فيسك، حال الصحافي آفيديس هاجيان في كتابه «الأمة السرّية» حول الأرمن في تركيا.

يقول فيسك في مقاله المنشور في صحيفة «إندبندنت» البريطانية: إن تتبع رحلة الصحافي والكاتب آفيدياس هاجيان ـ حسب ما جاء في كتابه «الأمة السرّية» ـ عبر جبال شرق تركيا، وسط الثلوج والرياح والقرى العالية الملتصقة بصخرة عرفت سابقاً بغرب أرمينيا، قبل الإبادة الجماعية للأرمن، لهو أشبه بالتجول في أراضي محافظة «نينوى» العراقية إذا اجتاحها تنظيم «داعش» وفاز بها.

ولتقريب الصورة يقول: «تخيل تشبث المسيحيين الذين أسلموا بأراضيهم تحت ستار الإسلام، إذا لم يتم تدمير داعش، وتخيل بيع اليزيديين كرقيق لممارسة الجنس تحت ستار الزواج، لكنهم ينقلون خفية لأبنائهم وأحفادهم أجزاء ولمحات من حياة قديمة ولغتهم القديمة»، فما اكتشفة «هاجيان» في مساحة تتسع من بلدات ماش وبيتلس وعرفه وارزوروم ومرعش بمثابة البحث في قاع بركة التاريخ، حيث البحث عن آخر أرميني على قيد الحياة في أرض المذبحة.

يقول فيسك: «يبدو أن البركة التي غاص فيها الكاتب عميقة للغاية، لدرجة انقطاع أنفاسه، وإنهاكه أحياناً جراء محاولاته العثور على أسلاف شعبه وأحفادهم، لكنه فشل أحياناً بعد بسالة لأن من تبقى منهم لن يتكلم، أو لأنه لم يتبق منهم أحد على قيد الحياة. ويتعجب «فيسك» من تجاهل المؤرخين كتاب «هاجيان» إلى حد كبير، إذ بالكاد نشرت مراجعة واحدة للكتاب في أوروبا وأميركا، ويرجح أن السبب قد يرجع إلى أن ضعف الضوء في قاع البركة، فصار أشبه بعتمة كاتدرائية عتيقة، فمثل ساحات القتل الأرمينية التي طمست كما لو لم تحدث من الأساس، يبدو الأمر كما لو أن الكتاب لم يوجد حيز الوجود إطلاقاً».

يقول فيسك: «إن الغرب عرف بشأن الأرمن السرّيين منذ 10 سنوات على الأقل، أي منذ أن كتبت «فتحية ستين» حول جديتها التركية من أصول أرمينية، ولم يكن هناك مفر من حصول جدتها العجوز الارمينية على جنازة مسلمة لكونها كانت امرأة تركية مسلمة، ويضيف «نتذكر جميعنا اغتيال هرانت دينك خارج مكتبه في صحيفة في إسطنبول عام 2007 لأنه أتى على ذكر الإبادة الجماعية الأرمينية أكثر من اللازم، لكن «هاجيان» اتخذ درباً لإيجاد أسلافه إذ تسلق الطرق القديمة البالية المؤدية إلى القرى القديمة التركية المغمورة، مثل غاران وفان وسلشيا، حيث ما يزال يتواجد أجيال من ضحايا أول إبادة جماعية في القرن العشرين إذا جاز التعبير».

من يتذكرون لغة عرقهم يتكلمون بعض الأرمينية، قد تجد أحدهم يكتب الأصوات العربية برسم الكتابة الأرمينية، ويقتبس آيات من القرآن لا يفقهها، يقول فيسك: «إن هناك ما يقرب من مليوني شخص أمثالهم، هويتهم معقدة مثل جنسيتهم، ويتساءل: ما الهوية؟ هل هي الدين؟ أم العرق؟ أم العادات؟ أم الجغرافيا؟ ويستنكر هل هي رعب فتاة تركية تتسلق جبلاً مسيحياً أرمينياً مقدسَا ـ جبل ماروتا- بسبب سقوط حقيبتها فكشفت عن صليب أرميني مطرز؟ تضمن كتاب هاجيان صورة ملونة لفتاة مرتدية تنورة طويلة، لكن يظهر مع شعرها البني الفاتح المكشوف شبح شعب مفقود».

يقول فيسك إنه ما يزال غير متأكد من سبب توغل هاجيان الأرجنتيني الأرميني الأصل المولود في حلب، ثم هاجر إلى الأرجنتين في عمر الثانية في تلك الجبال وبالمقارنة مع الفلسطينيين في الشتات الذين قد يحلمون بالعودة إلى أراضيهم المفقودة، فإن المغتربين الأرمن الأغنياء نسبياً، وأغلب الأرمن الناجين المشتتين في جميع أنحاء العالم، ويبلغ عددهم 11 مليون أرميني، ينحدرون من الناجين من الإبادة الجماعية لمليون ونصف شخص من شعبهم على أيدي الأتراك والأكراد أيضاً، لا يرغبون في الاستقرار في حقول القتل الجماعي القديمة، إذ ماتزال ساحات المجزرة حاضرة جيداً في أذهان البائسين الذين ما يزالون يقطنونها، لكنهم في كثير من الأحيان لا يحملون من ذكراها سوى حديث أجدادهم «بلغة غريبة» للإشارة إلى تاريخ عائلاتهم.

بطبيعة الحال ـ يقول فيسك ـ في أغلب الأحيان كان الناجون من النساء، ولا يخفى سبب ذلك، إذ أبقى عليهم الأتراك والأكراد لاغتصابهم أو بيعهم للزواج من الأتراك أو الأكراد أو العرب، بينما ذُبِح الرجال بالسكاكين، وأحكم وثاقهم بحبال ليلقى بهم في الأنهار والأودية، وهكذا فعلى الرغم من أن «هاجيان» لم يستفض في التحدث عن هذا الجانب، فإن من الواضح أن غيمة من العار والخزي تخيم على الأنوثة. يذكر «هاجيان» أنه عثر على إمام مسلم أرميني الأصل قُتِل جده في الإبادة الجماعية، بينما أسلم عمه المسيحي الدارس للاهوت، يتحدث الإمام الكردية والتركية والعربية، لكنه لا يفقه الأرمينية، وذلك على الرغم من أنه يعرف تاريخه، ويدعي أنه لم يُكرَه على اعتناق الإسلام.

أخبر الإمام هاجيان: «ما يزال أحفاد الذين ذبحوا عائلتنا على قيد الحياة»، وأضاف: «نحن نعرفهم، ونعرف أحفاد الناس الذين قتلوا جدنا شاهين. عشنا معهم، وكنت أراهم يومياً. كنا نرى شخصاً عديم الشرف كقاتل جدي يومياً، لكن لم يكن بوسعنا فعل أي شيء»، وعلى الرغم من أنه لا يفهم الأرمينية، كان الإمام يعرف اسم قاتل جده شاهين: ديوان أرات».

وفي أرجات، يذكر فيسك أن «هاجيان» زار «وادي الأرمن» وهو ـ كما يبدو من اسمه ـ أخدود، حيث ألقي بالأرمينيين ليلقوا حتفهم في عام 1915، وربما لا توجد أي بقايا من عظام الجثث، لكن ما تزال ذكرى الضحايا حية، وبينما يتسلق «إبراهيم» الوادي، يتذكر ما قاله والداه عن جدتهم الكبرى «زارا» والتي كانت تبلغ من العمر خمس سنين عندما «رأت أفراد العصابات يقطعون والديها وأشقاءها السبعة» ففرت ذات الخمسة أعوام عبر الجبال حتى قرية بهرو، حيث شهدت «أكوام ضخمة من الجثث على طول الطرق». إلا أن أحفاد الضحايا الآن متلونون، يذكر هاجيان في كتابه أنه قابل عائلة أرمينية الأصل، مسيحية أرثوكسية أشورية، أو مسلمة سنية ديانة، وتركية الجنسية، ويضيف مشبهاً الأمر بالبصل، يقول: «إن تقشير طبقاتها حتى النهاية لا يؤدي بك إلى شيء، فهي ليست إلا مجموع طبقاتها، كل تلك الطبقات تشكلها»، وكذلك الأرمينيون هم مجموع كل تلك الهويات.

ويضيف فيسك أن هاجيان يذكر في كتابه أنه وجد إحدى القرى فوق جبال سييرا، حيث استمرت العداوة بين القرويين ذوي الأصول الأرمينية وبين جيرانهم حتى الستينات من القرن الماضي مع بعض معارك إطلاق النيران بين الحين والآخر، بل وحتى عمليات قتل بين الطرفين، والذي كان بدوره استكمالاً لإبادة جماعية استمرت طوال نصف قرن. يقول فيسك: إن «هاجيان ليس لديه أي استنتجات نهائية يقدمها لقرائه في الكتاب، باستثناء ملاحظة أن الناجين ـ بما في ذلك الفتاة الأرمينية المرعوبة على جبل ماروتا ـ ليسوا وحدهم».

ويختم فيسك مقاله قائلاً: «إن النجاة بالطبع تُبقي الذكرى قيد الحياة فلا تذهب أمم طي النسيان، لكنه ليس متأكداً من أنها قد تضمن حياةً في المستقبل».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى