ليلة «شهرياد» الـ187 لن تنسى… والسبب؟!
كتب الشاعر مردوك الشامي:
الليلة الـ187 لمنتدى «شهرياد» لن ننساها لسببين: أوّلهما أننا سمعنا موسيقى مذهلة حقاً. وثانيهما: أنّ الموسيقيين لم يحضروا. وحضر الرسم النبيل.
أقف حائراً بين نغمتين وأنا أحاول الكتابة عن سهرة «شهرياد» الـ187. نغمة في منتهى الجمال والشعرية والبهاء، ونغمة في منتهى النشاز!
نغمة حملتنا إلى أعالي النشيد والتحليق والنشوة. ونغمة، أسقطتنا إلى الهاوية!
فكرة السهرة بحدّ ذاتها رائعة وعبقرية، سعى إليها وتابعها الصديقان المسرحيّ الإعلاميّ يوسف رقّة، والإعلاميّ الناشر محمد علي رضى عمرو، هادفَين إلى إقامة المصالحة ما بين الموسيقى والمنابر الشعرية، بعد أن ابتعد بعض الموسيقيين عن المشاركة في المنتديات، بمبرّر عدم الإصغاء التامّ إلى المعزوفات التي تصاحب الشعر والشعراء.
وكلّنا وقفنا إلى جانب طارق بشاشة وغيره من الفنانين الذين نقدّر ونحترم، ودافعنا عن الموقف الذي اتُّخذ.
وكلّنا وقفنا إلى جانب هذه المظلومية المحقّة، مع أن ما يلحق بالموسيقى، يلحق بالشعر أحياناً، وكلاهما في أماكن العرض والتواجد المتاحة محكوم بالحضور، ومزاجيات البعض. والثرثرة تعلو أحياناً وتخفت أخرى.
ما فعله طارق وقتذاك، كان قراراً جريئاً، وأحزننا غيابه عن المشاركة وغياب الآخرين.
أعود إلى الأمسية إياها، مساء الثلاثاء الماضي في فندق «غولدن توليب» في الحمرا ـ شارع عبد العزيز، وأنقل بشفافة وصدق وكشاهد عيان كلّ ما حدث.
هذه السهرة، اختصّت فقط بالموسيقى والرسم فرقة «تجلّي» حضرت بكلّ جاذبية وقوّة، والعازفون فيها هم: طارق بشاشة كلارينيت ، راغد نفاع تشيلو ، ربيع سيد أحمد غيتار ، عبودي جطل إيقاع ، وزكريا العمر ود وإنشاد .
والرسامون هم: وسام كمال الدين، دارين روكز، فاطمة إسماعيل، وجهاد كدم.
أجزم أنّ الحاضرين جميعاً ـ وكثيرون منهم جاؤوا من مناطق بعيدة ـ حضروا للاستمتاع، وحضروا وهم واعون أنّ حضورهم تكريم لطارق والموسيقى، وتعزيز للمصالحة المنتظرة.
الفرقة كانت أكثر من عظيمة، الانسجام بين العازفين، الاختيارات الموسيقية، التناغم، والهارموني المنساب كشلال عطر. للحظات، تم بالفعل اقتلاعنا من المقاعد التي كنّا نجلس عليها، تم رفعنا إلى الأعالي. إنشاد زكريا العمر، والنصوص الشعرية الصوفية والعرفانية التي أنشدها، خلقت فينا حالة من الهيام العذب.
باختصار، استطاعت الفرقة أن تقول الكثير من الشعرية، والكثير من السحر.
وعلى ضفاف النغم كان الرسامون يلوّنون المساء ببياض قلوبهم وألوان الحدقات.
كلّ هذا جميل ورائع.
وطارق بشاشة كان في منتهى الدفء، في غاية التهويم والتلاشي يأخذنا معه حيث يشاء… لكن الواقع يقول إنه ليس بمقدور أحد أن يصمت لوقت متواصل، أو يهمس حتى. الاصغاء كان حاضراً واستثنائياً، لكن من الطبيعي أن يهمس أحدهم لإحداهن «كيفك»، أو يستدرج أحدهم إلى حديث هامس وعابر… ففي النهاية نحن لسنا في صفّ مدرسيّ، وإذا همس تلميذ، لا يقوم المعلّم بإيقاف باقي التلاميذ على الجدار رافعين اليد والقدم!
والحضور، وكلّهم شعراء ومثقفون، جاؤوا كما قلت من قبل للسماع، وكان السماع أكيداً، لكن طارق ـ ويعلم كم أكنّ له من محبّة وتقدير ـ لم يكن مرتاحاً، كان متأهباً لأيّ همسة، كأنه يريد أن يثبت لنفسه ولنا أنّ الجوّ غير صالح لحضور جلالة الموسيقى، وقال الكثير عن الشعر في تعليقاته، قال السوء، والشعر ليس بسيّئ ولا الشعراء!
كأنه جلس طوال الوقت يريد اصطيادنا متلبّسين بالحكي، لكي تعلو نغمة النشاز على كلّ الأنغام الطيّبة والشفيفة التي داعبت أرواحنا وسكنت فيها.
ما حدث بعد ذلك أقول عنه بكل بساطة وصراحة… معيب!
توقّفت الفرقة عن العزف، جرت ملاسنات في غير محلّها، انسحب عازف الغيتار ربيع سيد أحمد بطريقة فجّة، لحق به الآخرون، أطلق طارق تعابير مسّت الجميع بلا استثناء بالخيبة والغضب، ما كنت أتمنّى عليه أن يقولها.
ارتفع النشاز وانتصر على السهرة…
ومع ذلك لم تتوقّف السهرة، اللون قدّم سمفونيته المبدعة. وسام كمال الدين بكل محبة اعتذر عن طارق وما حدث، وهو كان رسمه في اللوحة التي قدّمها. جهاد كدم تحدّث عن عمله الجميل. وفاطمة إسماعيل التي وصلت بعد ابتداء الحفل بساعة بسبب ظرف تسبّب بتأخيرها، أنجرت لوحة رائعة في أقلّ من ربع ساعة، وتحدّثت عنها بكل شفافية وبلاغة ومحبّة، كذلك فعلت دارين روكز بالحديث عن لوحتها التي جسّدت الموسيقى قائلة: ذهبت الموسيقى وأنا أبقيتها على قماشتي.
يوسف رقّة قدّم الفرقة بدايةً بكلام فيه الكثير من الحبّ، ولم يراعَ في انسحاب الفرقة، وهو الذي اجتهد لإقامة السهرة.
ومحمد ناصر الدين قدّم الفنانين بكلام رائع كما عادته…
ليلة «شهرياد» الـ187 لن ننساها لسببين: أوّلهما أننا سمعنا موسيقى مذهلة حقاً… وثانيهما: أنّ الموسيقيين لم يحضروا!