عسكرة ترامب للفضاء الخارجي والسعي المغرور للهيمنة
إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب إنشاء فرع جديد يُضاف لفروع القوات المسلحة الراهنة، 18 حزيران/ يونيو الحالي، أثار عاصفة من الجدل والسخرية في الأوساط الأميركية، لا سيما أنّ الفكرة ليست جديدة أو تطرح للمرة الأولى، فقد جاءت ثمرة سلسة نقاشات مطولة تبنّتها الأفرع العسكرية المتعدّدة وضمّنتها لـ قانون التفويض للدفاع الوطني لعام 2017، الذي تبناه رسمياً السيناتور جون ماكين، وتعثر إصداره كتشريع ملزم نظراً لفتور حماس أعضاء الكونغرس حينئذ بتخصيص الموارد المالية اللازمة.
ترامب تعهّد بإنشاء فرع سادس من القوات المسلحة المكوّنة من: قوات الجيش والمشاة، القوات الجوية، البحرية، مشاة البحرية – المارينز، وخفر السواحل. يريد إضافة القوة الفضائية.
جدير بالذكر أيضاً أنّ إعلان ترامب يقتضي قيام الكونغرس إصدار عدد من «القوانين لإنشاء القوة الفضائية وتمويلها»، ولا يستطيع الرئيس منفرداً «إنشاء فرع جديد للقوات المسلحة». ونظراً أيضاً لاقتراب موعد الانتخابات النصفية، تشرين الثاني/ نوفمبر، وما ينطوي عليها من إعادة اصطفافات لأقطاب الحزبين، فمن غير المرجح أن يسارع الكونغرس للنظر «برغبة» ترامب على وجه السرعة.
تعليل ترامب وأعوانه لإنشاء «قيادة قوات فضائية.. تتبّع سلاح الجو» جاء بدافع دغدغة عواطف المتردّدين من أنصاره في الحزب الجمهوري والمزايدة عليهم بأنه «حين يتعلق الأمر بالدفاع عن أميركا ليس كافياً أن يكون هناك تواجد أميركي في الفضاء، يجب أن يكون لدينا سيطرة/ هيمنة أميركية في الفضاء. هذا الأمر مهمّ جداً». وأضاف «مصيرنا خارج الكرة الأرضية ليس مجرد مسألة هوية وطنية وإنما مسألة أمن قومي».
من أبرز المعارضين لنزوة ترامب الفضائية كان وزير دفاعه جيمس ماتيس إذ أرسل مذكرة مفصلة للجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، آذار/ مارس 2018، يعرب فيها عن الكلفة الباهظة التي ستراكمها تلك الخطوة وتفتح الأبواب على مصراعيها للإنفاق العسكري وما يرافقه من هدر في الميزانيات المخصصة وازدواجية التشكيلات البيروقراطية «في وقت نسعى فيه إلى التركيز على تقليص النفقات العامة». المذكرة جاءت رداً مبكراً على «فكرة ترامب بإنشاء قوة فضائية» في وقت سابق من شهر آذار الماضي.
القيادات السياسية التقليدية من الحزبين تسابقت لتأييد «الفكرة» خاصة أولئك الأعضاء في اللجان الرئيسة والفرعية للقوات المسلحة، في مجلسي الكونغرس، استناداً إلى ما يعتبرونه تراجع هيمنة الولايات المتحدة تقنياً وعسكرياً أمام «القدرات العسكرية الهجومية والدفاعية في الفضاء الخارجي لكل من الصين وروسيا بمعدلات مقلقة».
رئيس اللجنة الفرعية للقوات المسلحة في مجلس النواب، مايك روجرز، أوضح في سلسلة مقابلات إعلامية أنّ «البيروقراطية المتأصّلة في البنتاغون ستقاوم الخطوات الإصلاحية، وترفض تدخل الكونغرس.. وهي التي أدّت بنا إلى ما نحن عليه اليوم، فالصين وروسيا يتقاربان باستمرار وعلى وشك تجاوزنا» تقنياً وعسكرياً.
رئيس قيادة القوات المركزية الأميركية، الأدميرال سيسيل هايني، زعم في وقت مبكر من العام الحالي أنّ روسيا «ماضية في استغلال ما تعتبره الثغرات التقنية في الفضاء الخارجي مما يهدّد الفوائد الحيوية للولايات المتحدة من استكشافات الفضاء على الصعد الوطنية والمدنية والعلمية والإقتصادية». وأضاف نقلاً عن «تقارير صحافية» انّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين «يسير على خطى القوات المسلحة الصينية لإنشاء أسلحة بالغة التطوّر لضمان قيام روسيا تنفيذ مهامها الدفاعية في الفضاء الخارجي لغاية عام 2020».
عسكرة الفضاء
سارع الرئيس الأسبق رونالد ريغان إلى «إنشاء قيادة سلاح الجو فضائية»، عام 1982 بتفويض محدّد «لتسخير الموارد الفضائية المتاحة في العمليات والطلعات الجوية، وتحقيق النصر في الجو والفضاء الخارجي والفضاء الإلكتروني». قرار ريغان جاء تمهيداً لبرنامج حرب النجوم، الذي لم ير النور، وسعى الرئيس الأسبق جورج بوش الإبن إلى إحيائه مرة أخرى دون جدوى، نظراً لعدم توفر التقنيات المتطوّرة اللازمة للقيام بتلك المهام المعلنة، فضلاً عن ما شكلاه من انتهاك صارخ للمعاهدات السابقة مع الاتحاد السوفياتي للحدّ من الصواريخ الباليستية.
وعليه، يمكننا القول إنّ «نزوة ترامب» لا تعدو كونها محاولة أخرى بائسة للعودة لعقلية العسكرة ونشر العمليات العسكرية في الفضاء الخارجي. كما أنّ إعلان ترامب وتعليلاته اللاحقة شدّد على «ضرورة استمرار الهيمنة الأميركية في الفضاء الخارجي»، مما تطلب رداً عاجلاً وقوياً من روسيا يرفض ما توصل إليه البيت الأبيض والقيادات العسكرية الأميركية. وحسبما أفادت وكالة الأنباء الفرنسية، 20 حزيران الحالي، فإنّ موسكو تعتبر «الأمر الأكثر إثارة للقلق الهدف من تعليمات الرئيس ترامب أيّ ضمان الهيمنة الأميركية في الفضاء».
يشار إلى أنّ الهيئة الدولية تبنّت معاهدة تنظم الاستخدام السلمي والاستكشافات العلمية في الفضاء الخارجي، 1967، وفرضت قوانين دولية صارمة بعدم استخدامه ميداناً من ميادين الإشتباك العسكري واستخدامه لتعود الفائدة على جميع الدول والمصالح البشرية. كما توصلت الدول الكبرى إلى سلسلة اتفاقات ومعاهدات تحظر بموجبها «دخول أسلحة نووية وأسلحة دمار شامل في الفضاء الخارجي أو حول مدار الكرة الأرضية».
تسارع التطوّر التقني لا سيما في مجال الأسلحة حفز عدد من الدول لطرح مسودة معاهدة جديدة «تحرم سباق التسلح في الفضاء الخارجي»، بيد أنّ الولايات المتحدة رفضت باستمرار الدخول كطرف للتفاوض بشأنها.
القائد السابق للقوات الجوية الفضائية الروسية والرئيس الحالي للجنة الدفاع والأمن بمجلس الإتحاد الروسي، فيكتور بونداريف، حذر الولايات المتحدة «.. إذا انسحبت من معاهدة العام 1967، التي تفرض حظراً على نشر الأسلحة النووية في الفضاء، فإنّ روسيا والدول الأخرى الصين ستقوم بردّ قوي من أجل صون الأمن العالمي».
الإحساس بالتهديد
لم تشذ الولايات المتحدة يوماً عن اعتبار الإتحاد السوفياتي، ولاحقاً روسيا، مصدر تهديد لهيمنتها الكونية ونفوذها العالمي، مع الإقرار بتقدّم التقنية الروسية عن نظيرتها الأميركية في بعض الأسلحة. بيد أنّ بروز الصين في العقد الأخير كلاعب دولي «بطيء» يضاعف القلق الأميركي لا سيما في ما وثقته من استهداف وإسقاطها قمراً اصطناعياً صينياً في الفضاء الخارجي والتي «أثبتت كما روسيا قدرتها للاضطلاع بمهامّ وتنفيذ مناورات معقدة في الفضاء الخارجي»، وفق تصريحات الأدميرال هايني. ومضى في تحذيره من تلك القدرات بأنّ «الصين وروسيا لديهما قدرات متطوّرة لتوجيه الطاقة والتي من شأنها أن تسخر في تعقب أو إصابة أقمارنا الإصطناعية بالعمى».
المصادر الأميركية المتعدّدة تتشاطر في تحديد قدرات الصين التقنية في الفضاء الخارجي، وتندرج في مجالات أربعة: أسلحة لتكثيف الطاقة أسلحة الطاقة الحركية مضادة للصواريخ أسلحة الطاقة الحركية مضادة لأهداف أرضية وأسلحة تقليدية تنشر في الفضاء مضادة لأهداف أرضية.
من المعلوم أنّ أسلحة تكثيف الطاقة تسير نحو هدفها لتدمّره بسرعة الضوء الهائلة، تشمل أجهزة التشويش الإلكتروني والليزر بينما أسلحة الطاقة الحركية والتقليدية تصوّب نحو الهدف بفعل عوامل الحجم وسرعة الاتجاه للرأس المتفجّر. تعدّد الأسلحة المستخدمة مبنية على تعدّد المهام المنوطة بها ضدّ مروحة واسعة من التقنيات المستهدفة في الفضاء الخارجي. من العيوب الشائعة في أسلحة تكثيف الطاقة هو تراجع سرعة الردّ عندها أمام تهديد صاروخي، خاصة أنها غير قادرة على التعامل مع أيّ هدف لا يزيد ارتفاعه عن 60 كلم عن سطح الأرض، العلو المطلوب للبقاء خارج الغلاف الأرضي.
أما أسلحة الطاقة الحركية فمداها لا يتعدّى بضع كيلومترات، وسرعتها لا تتجاوز أربعين كيلومتراً في الثانية، وبالمقارنة بسرعة أشعة الليزر أو أسلحة الجسيمات الذرية، فإنّ أسلحة الطاقة الحركية بطيئة جداً. ويمكن استخدام هذه الأسلحة بواسطة أقمار اصطناعية ذات مدارات منخفضة، حيث تنطلق صواريخها على القذائف النووية المعادية وتطلق قذائف يتمّ توجيهها بواسطة أشعة استشعار لتصطدم بالقذائف النووية وتدمرها.
مبرّرات قيادة قوات فضائية
بداية، تحتفظ روسيا بهيكلية فاعلة لقواتها «الجوية الفضائية» أنشأتها لفعل قرار الرئيس السابق ديمتري ميدفيديف عام 2011، بدأ استكمال مهامه في الأول من آب/ اغسطس 2015 وصفها معهد غلوبال سيكيوريتي الأميركي بأنها «ابتكار هيكلي كبير.. يمكننا اعتباره محاولة لإعادة الاعتبار للقوات المسلحة للاتحاد السوفياتي السابق».
قائد القوات الجوية الفضائية السابق فيكتور بونداريف أوضح مبرّرات انشاء تلك القوة الجديدة «.. قمنا بتشكيل هذا الفرع من خلال توحيد القوات العسكرية الجوية وقوات الدفاع الجوي والقوات الفضائية، أيّ عن طريق تغييرات هيكلية، وهذا لم يؤدّ على الإطلاق إلى عسكرة الفضاء» وشدّد بونداريف على أنّ بلاده «.. تستخدم الفضاء ليس من أجل نشر أسلحة ضاربة فيه وإنما بهدف تنفيذ العمليات الاستطلاعية ولأغراض مماثلة أخرى، فيما يعمل الأميركيون بنشاط على تطوير الأسلحة الخاصة بتنفيذ الهجمات من الفضاء، وينفقون أموالاً ضخمة على البرامج والمشاريع المناسبة في هذا المجال».
في الجانب الأميركي، لدى قوات الجيش وسلاح الجو وسلاح البحرية «قيادات فضائية» تنفذ مهام محدّدة مطلوبة منها. السؤال المحوري يكمن في مدى فعالية وجهوزية فصل تلك الأسلحة ومواردها عن أفرعها الأم وتأثيره على المخصصات والالتزامات المالية، والقلق من إضافة تعقيدات بيروقراطية جديدة لما تعسّر السيطرة عليه في الوقت الراهن.
موقف تلك الأفرع، خاصة سلاح الجو، يقف بالتعارض مع توجهات سلخ أحد أسلحته الضاربة واستحداث هيكلية جديدة، ولعدم تحديد الفواصل بين البنية المستحدثة والأفرع الأمّ، لا سيما عند الأخذ بعين الاعتبار أنّ عديد الطائرات المقاتلة لدى سلاح الجو هو أقلّ مما لديه نظيره في سلاح البحرية. يُشار إلى أنّ مقياس غلاف الفضاء المعتمد يحدّد ارتفاعاً بعمق 100 كلم، فما هو الموقف المتجدّد حينما تحلق طائرة أبعد من ذلك العلو، وما سيترتب عليه من تخصيص موارد لهذا الغرض.
المهام الغامضة في إعلان ترامب هي مصدر قلق أيضاً لتلك الفرع لا سيما في مجال اختصاصها بشنّ حرب في الفضاء الخارجي مقابل توفير الدعم لقوات الجيش والأسلحة الأخرى.
وعليه، نستطيع القول إنّ فروع الأسلحة المعنية لا تعير «نزوة ترامب» اهتماماً كبيراً في الظرف الراهن، ولا تزال تطرح تساؤلاتها المشروعة حول الحاجة الملحّة لإنشاء «قيادة فضائية موحدة».
ما يعزز ذلك هو أيضاً تصريح بونداريف، سابق الذكر، في نفيه «المقارنة بين القوات الجوية الفضائية الروسية ومثيلتها الأميركية .. مشدّداً على أنّ الولايات المتحدة تعدّ لخطط كبيرة لعسكرة الفضاء بينما طرحت روسيا والصين مراراً مشاريع قرارات تنص على حظر نشر الأسلحة في الفضاء الخارجي، ورفضها الأميركيون».
عندما طرح الرئيس ترامب نواياه الأولى في هذا الصدد، آذار/ مارس من هذا العام، وصفتها بعض الأجهزة الإعلامية بأنها «.. تجعل منه أضحوكة في درب التبانة»، وتفاعلت معها كـ «كوميديا من الخيال العلمي»، وانتشرت على موقع ترامب المفضل، تويتر.
مركز الدراسات الأميركية والعربية