النقد ودوره التجاوزي في جمالية الصورة الشعرية
أمين الديب
نادراً ما وصِفَ الشعر بالجميل، في العصر الجاهلي، بقدر ما كان يوصف بالمتين والساحر والقوي، وهذا يعود لوظيفة الشعر الرمزية الإجتماعية.
وحتى يومنا هذا، نجد تفاوتاً وتبايناً في نظرة المتلقي والناقد، إلى جمالية الصورة الشعرية، فالسواد الأعظم لا زال يقيس الشعر على ما تأسس، بمعنى أنه يقيس الحاضر بما مضى، فالمعرفة التجديدية مرتبطة في ذائقته بما يعرفه سابقاً، أي أنه يدفع بكل التحولات الفكرية المتجددة إلى اتجاه الماضي، ويشكك في كل ما هو مستقبلي، لركونه إلى السائد المتجانس مع الموروث، فيتآلف مع ما يعرفه ويشكك بما لا يعرفه، فاللغة الجميلة عنده هي أن يتكلم الشاعر بموضوعات يعرفها الجميع، بمعنى أن يمزج الناقد أو المتلقي بين اللغة والكلام.
الجمال نسق أو اتّساق، أكان في نسبيته أو اكتماله، الشكل والمضمون وحدة جمالية متناسقة، فإهمال الشكل بدافع الاعتقاد أن المضمون أو المحتوى هو فكرة يعرفها كلا المتلقّي والباث، لاستتباب القيم، يقمع فكرة التطور. فالجاحظ عندما تصدى لهذه المفاهيم النقدية اعتبر أن الشكل إناء، ونقد الشكل إنما هو امتحان لفكر الشاعر أي المضمون، فأي فكر جديد يحتاج لانبثاقه شكلاً جديداً، المحتوى في الشعر نوع من حضور الشكل في حركية الابداع والتطور، فاذا كان المحتوى اصطلاح نقدي، أي أنه تجريد ذهني، يستحيل عزله عن الشكل، لكينونته الانصهارية المتلازمة ككيان أدبي قائم بذاته، عندها نكون قد حققنا تجاوزاً حقيقياً في المفاهيم.
بمعنى إذا كان الشاعر كيميائي الواقع، يُعيد ترتيبه وصوغه بحساسيته ورؤياه، يخلق واقعيته المتوخاة، فالناقد هو فيزيائي الواقع يستنبط من القصيدة الأبعاد وجوهر المعاني ليضفي جمالات ومقاييس تنبعثُ من المُنبعث، ليتشكل المدى الجمالي في الصورة الشعرية.
لذلك نرى أن مسألة النقد العلمي، لإنتاجنا الأدبي، ما زالت حاجة مُلحة يقتضيها سياق التطور الإنساني. وتقتضيها أيضاً حالة المجتمع الذي يرزح تحت أعتى هجمة لستعمارية، تهدف إلى تدمير الحضارة والتاريخ والشخصية المجتمعية، وتسعى إلى تفتيت وحدة المجتمع دينياً ومذهبياً وإثنياً، بهدف الهيمنة على ثرواتنا، وتخوض لذلك أشد الحروب فتكاً وقذارة كي تحقق أهدافها وأطماعها.
فالموسيقى والشعر والأدب والفنون، هي روح الأمة والمُعبّر عن شخصيتها الحضارية والمعنوية والدافع إلى تطورها وتقدمها، لذلك وجب أن نؤكد على أهمية أن يلعب النقد الموضوعي دوره الاستنهاضي، من خلال العمل على إطلاق آلياته التي من شأنها أن تفصل بين النص الأدبي الأصيل، والنصوص التي لا يمكن أن تقدم أي عمل جوهري من شأنه أن يرفع روحية المجتمع لوقوعها في التقليد واجترار الأفكار المطروحة والمتمسكة بماضويتها، حيث تستكين في السائد السهل، الذي لا يتطلب أي جهد أو مغامرة إبداعية متجددة.
قد يكون الاعتقاد باستمرارية الماضي، لكماله، بنظر معظم النقاد الذين تنوعت مدارسهم النقدية، هو ما أعاق الثورة الفكرية، كون النقد بكينونته ليس إلا فكراً مُستشرفاً، يرى إلى الواقع جوهره ومعنى الحدث وليس الحدث بحد ذاته وإلا صار مترجما للواقع وهذا لا ينطبق على الشاعر الثوري، كأن يكتب عن الواقع إنما برؤيا الاستفادة التجاوزية التي تقود إلى المستقبل المُتخيل.
ومن أهم المآخذ على المدارسن النقدية، أكانت بنيوية أو واقعية، أنها لم تستطع محاكاة الظواهر الفنية والاجتماعية، فوقعت في مطابقة النص مع الواقع، دون أن تستنبط الاستحالة بين الإبداع المتفجر من الواقع والواقع نفسه. كما أنها من ناحية استتبابها بالنمطية لم تلحظ ولم تعنَ بتفجر الأشكال أو بالدلالة لظاهرة تجدد الشكل. كذلك من المآخذ المهمة أن العملية النقدية أغفلت لقناعتها باستتباب القيم، النواحي الروحية في الشعر، فأغفلت أهمية الغوص بالمكبوت عند الشاعر وتجلياته الرمزية خاصة في ملامحه الدينية والنفسية والتي تشكل حيزاً هاماً في القصيدة. كما أنها لم تُعنَ إطلاقاً بنسبية الاستقلالية الشعرية عن المعايير المجتمعية السائدة وتغيراتها الضرورية. لقد أهمل النقد حركية النص، عندما اعتبره حيوية منتهية حين الفروغ من كتابته ولم ينظر اليه قط بأنه مشروعاً مستقبلياً، لعدم قدرة النقد على الإنفتاح على القارئ المقبل ـ الأجيال الجديدة، وكأن الشاعر لا يقصد مخاطبته فحرم القارئ المستقبلي الذي ربما سيقرأ النص بلغته إنذاك وربما سيعدل حسب ثقافته ومفاهيمه ما يتلقاه من الشاعر.
وأيضاً نرى أن العملية النقدية السائدة أو الماضوية، نظرت بشكل ممنهج إلى القصيدة على أنها انعكاس لما يحيط بها وليست حيوية وفاعلية لها أبعادها ومضامينها ونسيجها الكلامي كبنية لغوية جمالية فتفقده عناصر اكتماله وسعيه للاستنباط والإبداع. ربما كان للنقد موقف مُسبق من مسألة التجاوز والتجديد، لذلك تغاضى عن دراسة الأشكال الشعرية الثورية وما هي دلالاتها البنوية، فكل فكر جديد يحتاج شكل جديد في عملية التوازن المعرفي، فالبنية الشكلية ـ الفنية الجديدة هي نتاج إرهاصات وتصدعات في الواقع السياسي الثقافي الاجتماعي الاقتصادي، لذلك ان فهمنا للواقع الجديد ـ بمعنى الدائم التجدد يحتم علينا ابتكار الأشكال المتماهية مع الفكر الثوري.
ومن اللافت جداً، إذا قارنّا بحثياً بين المفاهيم البحثية العربية، خاصة في صدر الاسلام، وما كان عليه، مقارنة مع الراهن، قد تراجع في الوقت الذي كان ينبغي ان يكون أشد جرأة وانفتاحاً، فنجدة أكثر انكماشاً ومحافظة لم تعد مألوفة أو قابلة للحياة في عصرنا وزماننا.
إذن السؤال المطروح بناءً على ما تقدم، ما هو المقصود بجمالية الصورة الشعرية، هل هو الحفاظ على ذائقةٍ تجمع بين اللغة والكلام، أم الاندفاع البحثي عن الجمال في تفجُّر الشكل بالكلام الثوري، وهل الشعر سوى التجريد المثالي المُتخيل، والمُستنبط من الواقع، المعنى العميق للواقع وما يتجاوزه من مدلولات وأبعاد.
إن المقموع والمكبوت في القصيدة يحتاج إلى لغةِ وشجاعةِ الإفصاح كي يكون جميلاً، يحتاج إلى لغةٍ جامحةٍ لا يمكن تدجينها وترويضها بالقيم والتقاليد والمقدسات السائدة،
ما نُريد قوله هنا ان جمالية الصورة الشعرية تكمن في تفجُّر الشعر الدائم داخل منظومة السائد القمعي الماضوية، وأن ينبثق بفعل هذه الحيوية، من القصيدة قصائد بفضل ثقافة القارئ وحضوره الإبداعي ـ الثوري.
في هذا المناخ الإيحائي، لا يمكننا النظر إلى الواقعية فنياً، خارج اتجاهين أساسيين، اتجاه الجمالية التي تحددت بتأثير ستالين، وأفكار جدانوف، التي أخذت أبعادها التعبيرية واكتمال التنظير لها عند لوكاش، واتجاه الجمالية التي استلهمت مسرح بريشت أو بريخت كما يسميه البعض، إلى أن استفاض أرنست فيشر في التنظير وارسى مفاهيم جمالية جديدة ما زالت قيمتها النقدية فاعلة حتى اليوم.
هذان الاتجاهان يفترقان في وجهة النظر إلى الحياة والكون والفن في مسائل جوهرية نابعة من علاقة الانسان بالارض، أي الدورة الحياتية وعلائق العمل والانتاج والخلق ومقاييس القيمة الفنية وتأثر المتلقي بالباث، أي جدلية الوجود بمظاهرها ومعناها الدلالي في سياق الحركة الانسانية صناعة وغلالاً وفكراً. في حين يحدد الاتجاه الاول الفن بالمعرفة بأنه انعكاس لواقع موضوعي مباشر وجاهز. بينما الاتجاه الثاني يرى اليها شكلاً من أشكال العمل لما فيها من خلق وابداع.
الاتجاه الثاني يرى ان الفن فعل، أي تغيير، أي ان دور الفنان بحثي تجاوزي باستمرار، وهكذا تبرز نظرية طبعنة الانسان في الاتجاه الاول، وأنسنة الطبيعة في الاتجاه الثاني، وهذا هو الاتجاه الذي أميل اليه، إنتصاراً لأبعاده الجمالية والنظرية الخاصة انطلاقاً من الواقع العربي، الاقتصادي الاجتماعي الثقافي السياسي.
والانسان لا الشيء هو في هذا الاتجاه مدار الاهتمام والتوجه.
في هذه العجالة لا أحاول اطلاقاً القطع الوضعي مع الماضي، بقدر ما أحاول أن ارسي ان الماضي والحاضر هما منصات انطلاق فكرية لتجديد لا ينقطع ولا يستكين، دون الوقوع في التقليد والتكرار والاستنساخ، فالجمال يتمركز في المستقبل المتحرك دائما والناظر إلى الابتكار الذي يقود إلى الحرية.
يقول ديكارت في هذا السياق: «لا أريد أن أعرف إن كان هناك بشر قبلي». وأُضيف أنه لا يمكن لشاعرٍ أن يكون حقيقياً إلا اذا قال هو أيضاً لا أريد أن أعرف حتى ان كان هناك شعر قبلي، فالشعر بداية من حاضر منفتح على المستقبل، بمعنى علينا في الشعر الواقعي أن ننجز للواقع شكلاً متحركاً أي شكلاً مستقبلياً، انه فعل ثوري بامتياز كون الثورة لا يمكن أن تتحقق بشكلها النهائي، تحققاً فعلياً في الواقع، وألّا يفرغ الإنسان من انسانيته ويصبح شيئاً، بهذا المفهوم تكون القصيدة مقطوعة أو جزء من كل يتلاحق كأن تكون الكتابة الشعرية عملاً دائم الحدوت يكتسب عمقه وغِناه بالاستنباط والاضافة والابداع، في البحث عن الغامض المجهول على أن يكمل ما لا يزال ناقصاً فيه أي الغامض، فيصحّ هنا أن نقول أن الشعر هو الأمل الذي ييأس، واليأس الذي يأمل، فالحياة لا تحمل مزيداً من الأمل الا اذا حملت في الوقت نفسه مزيدا من اليأس.
ومن هنا لا يتجسد الواقع في ما يقود الشاعر قصيدته اليه بقصده وإرادته، وحسب، وإنما يتجسد أيضاً فيما تقود اليه القصيدة حيث لا يقصد الشاعر ولا يريد.
ناقد وشاعر