أسيمة درويش مكرّمةً في ذكراها الأولى… وتمنٍّ لوضع نصوصها في كتب تعليم اللغة العربية

اعتدال صادق شومان

أن تجتمع ثلاث مؤسّسات ثقافية لتكريم الأديبة والناقدة السورية الراحلة أسيمة درويش 1939 ـ 2017 في تحية وفاء لذكراها الأولى، فهذا يعني أن لصاحبة «شجرة الحبّ غابة الأحزان» أشجاراً وارفة الظلال في الحضور كما الغياب تعصى عواصف النسيان، فلا عجب في أن تجتمع ثلاث مؤسسات ثقافية حضورها فعّال على الساحة الثقافية في بيروت كما في عواصم العالم العربي، كـ«دار نلسن»، و«دار الأداب»، و«تجمّع الباحثات اللبنانيات»، إلى جانب كلمة من الناقدة السورية خالدة السعيد خصّت فيها المكرّمة ضمّنتها جلّ المحبة والتقدير من دون أن يفوتها شكر «بيروت على مبادرتها إلى تكريم كاتبةٍ حلمت طويلاً أن تمضي العمر في هذه المدينة الفريدة بين المدن، وأن تقيم في جوار مثقّفيها، المميّزين بين النّخب الثقافيّة في العالم. فأسيمة درويش، كانت صديقةً عاشقةً لبيروت وأهلها ومثقّفيها ومؤسساتها الثقافية، ومدركةً قداسة رسالتها ودورها». وكان من المفترض حضور الناقدة السورية من مكان إقامتها الباريسية، غير أن طارئاً حال دون ذلك، فتكفل سليمان بختي بقراءة التحية.

وقد حضر خصيصاً من السعودية إلى «دار الندوة» صاحبة الفضل المستديم زوج الأديبة الراحلة فيصل الشهيل ونجلها، إلى جانب مشاركة ثقافية واسعة تجلّت فيها الوجوه النسائية على الأخصّ اللواتي يعنين بالكلمة على اعتبار أنّ المكرّمة تعدّ أبرز من رفعن الغطاء عن «أرواح الإناث المعذّبة».

وفي صولة الكلام الجميل، كانت تحية من الدكتورة يمنى العيد، «صديقة وشقيقة روح» واستفاضة من رولا بعلبكي عن تجربتها الأولى مع الترجمة الأدبية كعمل متكامل ومتنوع الجوانب من ناحية الكلمة والأسلوب في ترجمتها إلى الانكليزية رواية الأديبة الراحلة «شجرة الحبّ غابة الأحزان»، الصّادرة عن «دار الآداب» والتكتيك الذي اعتمدته بعلبكي لتحقيق النفس الإبداعي والأدبي باروع ما يكون. وكانت أيضاً كلمة للناقدة نجلاء حمادة تحت عنوان «أسيمة درويش بين المعنى والمبنى» نسبةً لكتابي الأديبة درويش اللذين تناولت فيهما التجربة الأدونيسية. وقد ساقت حماده محاججة بغيرمهادنة، أشبه ما يكون بمحاكمة فكرية للكاتبة وللشاعر أدونيس معاً على اعتبار أن الكاتبة منحته حضوراً مبالغاً فيه وتجاوزاً للسلبيات. وعلى رغم القيمة العالية للنصّ، غير أننا نسجّل أن وقوعه جاء في غير اللحظة والمكان، حيث المناسبة تحية وفاء للأديبة الراحلة لا ندوة تتناول نصوصها ونتاجها الأدبي.

وكان من المفترض بحمادة أن تتناول مواقف أسيمة درويش من قضية المرأة بحسب صاحب الدعوة سليمان بختي، غير أنها اختارت نصّاً طويلاً مبدئياً طاول مجمل كتابات المكرّمة مع غياب إمكانية المسجالة النقدية، ولنا عودة إلى هذه الكلمة في مقاربة لنصّ الناقدة خالدة سعيد لمجمل نتاج الأديبة.

وأسيمة درويش الشغوفة بكلّ ما له علاقة بالكلمة والإبداع كما وصفها مدير «دار نلسن» الكاتب سليمان بختي، خاضت غمار الصحافة وأنتجت في حقل الأدب نثراً وشعراً كما خلدت اسمها برائعتها الروائية «شجرة الحب غابة الأحزان» التي تحكي فيها عن غربتها في وطنها الذي يتسيد فيه الرجل، وعن استعادتها لذاتها في بلاد الغربة التي وفّرت لها العلم والحبّ والحرية.

ولها أيضاً كتابان نقديان خصتهما بالحضور الأدونيسي، الأول «تحرير المعنى» ـ 1997، والثاني «مسار التحولات» ـ 1992، وهما بمثابة دراسة لتجربة صاحب «أغاني مهيار الدمشقي» واعتراف لهذا الحضورالأدونيسي الاستثنائي وأثره التحويلي والفاعل من خلال تفسيرها وتحليلها وموازنتها بين المعنى في متابعة تعتمد الإستنباط والتأويل بين الرصد والتحليل من الدلالة المباشرة للبناء اللغوي والبنية الشعرية. وتحديداً هذا المحور كان مسار تقييم جدير بالتأمل والإنصات الذي ساقته كل من خالدة السعيد الناقدة السورية التي رافقت موجة الحداثة الشعرية اللبنانية ناقدة ومترجمة وكانت في ميدان النقد النسوي العربي، ومن جهة أخرى الأكاديمية والكاتبة والباحثة الاجتماعية نجلاء حمادة.

خالدة سعيد: «شجرة حب» كرّست درويش روائية خلاّقة

ونظراً إلى أهمية النصّين وقيمتهما النقدية، نورد هنا بعض ما جاء فيهما:

بداية مع خالدة السعيد، ففي حين تجد أسيمة درويش في روايتها «شجرة حبّ غابة أحزان» فتقول: كتبت الرواية، خاصّةً، على مستوىً رفيعٍ من حيث العمق والرؤية وتحليل الشخصيات، وبأسلوبٍ نظيفٍ مباشرٍ متحرّر من الحشو، فوقفت في صفّ الروائيين الخلاّقين، في روايتها شجرة الحبّ غابة الأحزان.

وفي ما يخص كتابي درويش مسار التحوّلات وتحرير المعنى، الذي توصفهما خالدة السعيد بأنهما بين أهمّ الدراسات التي وضعت حول هذا الشاعر وهي، كما نعرف، باللغة التعدّد والتنوّع. فما كتبته يتجاوز عديد أطروحات الدكتوراه حول الموضوع من حيث العمق والإشراق والاستقصاء وبعد الرّؤية، وجدّة المقاربة، فضلاً عن حيوية الأسلوب ودقّة التحليل وجودة التّعبير.

وهي لم تختر للدراسة والتحليل، في الكتابين، المألوف سهل المقترب من الشعراء، بل من كان مشهوراً بغموضه وعمق نصوصه وخلفيّاته التراجيدية والفلسفيّة، ما جعله محلّ سجال.

أنا نفسي سألتها بشيء من التشكيك وحتى التحذير: لماذا تختارين أدونيس، وهناك شعراء مجيدون أقلّ غموضاً وأكثر شعبيةً وأسهل مقترباً. وأذكر أنّ سؤالي لم يعجبها، ورأت فيه غضّاً من قدراتها.

كانت في الحقيقة تهوى التحدّي، وترمي إلى الغوص في نصوصٍ تراجيدية

ويقود إلى شفاء تساؤلاتها واستكشاف تراجيديا الوجود.

وأوّل ما أدهشني عند فقيدتنا أسيمة درويش، هو مستوى مطالعاتها، عبر الترجمات إلى الإنكليزية، وتمثلها المدهش للثقافة الأدبية الحديثة، والتقنيات والأساليب التي ابتدعتها لدى تحليل شعر أدونيس. وقد كتبت بثقةٍ كبيرة، وبكثيرٍ من الحيوية والدّفق والعمق وسعة الأفق. ومنذ كتابها الأوّل، ناقشت كبار الباحثين، واعتمدت النّظريّات الحديثة، وأرست مفهوماتٍ وطوّرت تقنيات.

إنّ تحليلها لنصوص أدونيس يقدّم ما هوأكثر من إضاءةٍ معرفيّة يتمّ اكتسابها بالاطّلاع. إنها أضواء نظرٍ راءٍ وتجربةٍ فكريّةٍ وصميميةٍ بعيدة الغور.

وقد كشفت لنا كتاباتها عن قدرةٍ عاليةٍ على القراءة، وقدرةٍ أعظم على الذهاب بعيداً في أعماق النصّ وخفايا دلالاته.

أما الباحثة نجلاء حماده فلها قراءة متناقضة تماماً لمجمل كتابات أسيمة درويش عن قراءة خالدة السعيد وتقييمها وإن اتفقت معها على سلالة لغتها، أي لغة درويش غير أنها تطعن بقدرة الأخيرة على الإقناع فتقول: «يكاد من يقرأ أسيمة درويش أن يؤخذ بروعة لغتها وسلاسة أسلوبها فيقتنع بما لا يقنعه من غيرهما واذ يراجع القارئء تأثّر قناعته بهذه الجمالية قد يتساءل اذا كانت أساليبنا اللغوية أم عصور الانحطاط التي مرّرنا بها السبب في انجرافنا نحو المبالغة ونحو توخّي الإقناع بطرق مغايرة للجدليّات للغوية المحكمة. ولأن مقدرة الكاتبة على التحليل والتعليل واضحة وملفتة في مقاطع كثيرة من أعمالها النقديّة، يكاد من يتنبه إلى التسرّع أو التحيّز في مواقع أخرى عندها أن يضع الملامة على ضلوع الأديبة بالضرب على أوتار اللغة مما يوقعها أحياناً في توخي الأطراب بدل الإقناع.

وتأخذ على درويش، فرط إعجابها بأدونيس وتأخذ عليها قولها: بين أدونيس والقارئ حجب إعجاب مفرط أو نقد متجنّ، إعجابها بأدونيس جعلها توقف على شعره كتابيها في النقد ووجدتها تتعمّق وتدقّق تقديرشعره. وفي التعبير عن مواطن العبقرية فيه بل إنها تفرط إعجابها فمن مظاهر تعمّق الناقدة في أعمال أدونيس أنها في «تحرير المعنى» الذي يتناوله الكتاب «أمس المكان الآن» تسقط القصيدة الطويلة ما ورد في الثابت والمتحول، فترى في ما يسميه الشاعر الكوفة تاريخاً ثابتاً يعيد نفسه في مدن عربية متجانسة مقارنة بما يسميه بطرسبرغ، حيث المكان يتحول ويتجدّد فيشهد الشاعر تكوين بلاد أخرى وميلاد آخر، وتوغّل الناقدة درويش في رصد رجع الشاعر لصدى المراوحة الطويلة في ركود الحالة العربية موردة قوله لكن المعنى عند قريش سيف أو كرسي أو حفنة مال.

أمّا في مراجعتها «هذا اسمي» في كتابها «مسار التحولات» تعتبر أن درويش بالغت كثيراً حين اعتبرت أن قصيدته هذه «وطدت دعائم الكتابة من مرحلة الكتابة ـ القول إلى مرحلة الكتابة ـ لفعل واذ تفسر زعمها هذا في وصف عمل الشاعر بأنه تفجير القصيدة وإعادة تشكيلها في الشرح الإبداعي كسلاح في وجه الإرهاب. تبدو كأنها تتوسّل في الشرح غموضاً يكاد ينافس الغموض في شعر أدونيس. فهل يصحّ الغموض في النقد كما يصحّ في الشعر، تتساءل الناقدة.

وتأخذ أيضا عليها دفاعها عن أدونيس إزاء تصنيف «بنيس» له في خانة الشعراء للأساتذة من جمعوا طرائق المبتكرين واستعملوها بجودة تضاهي المبتكرين أو تفوقهم وليس تصنيف أدونيس في خانة الشعراء المبدعين وفق تبنّي «بنيس»، لتصنيف «أزرا باوند» للشعراء بين مبتكرين وأساتذة ومبسطين فتنتقد «بنيس» لتصنيفه هذا لأدونيس.

لتعود وتعترض على دفاع الكاتبة عن الشاعر أدونيس بوجه من يتهمونه بنخبوية منغلقة هو أقل إحكاماً وإقناعاً واختارت من مراجعة الكتاب. وقد تخلّل الغموض الكتاب تخلّل الهواء للشجر، وهذا القول يلزم الكاتبة باعتبار الغموض من طبيعة الشعر أو من طبيعة أدونيس وهو اعتبار قد لا تتفق حوله الآراء أو قد يلزمه دعماً أكثر إقناعاً من مقارنته بالأوضاع في الطبيعة.

أما أسيمة درويش الروائية في «شجرة الحبّ غابة الأحزان» ترى حمادة موقفها واضح بل مبالغ به لدرجة تضعف القيمة الفنّية للرواية. ورغم جمال الوصف ورشاقة العبارة في رواية درويش الوحيدة، فان مبالغة الكاتبة في الإيجابية في وصف النساء والسلبية المتجنية في وصف الرجال يشكّلان تبسيطاً هوليودياً يسيء إلى القيمة الفنية كما الفكرية للعمل، وهذه المبالغة تضفي على الرواية نفحة وعظية تسيء إليها.

غير أن في النهاية سجّلت نجلاء حماده حسنة لدرويش قدرتها لها في الجهد والموهبة الظاهرين في أعمال أسيمة درويش، التي قالت: أسجلّ إعجابي بقدرتها على التعبير وتمنيت لو تعتمد نصوصها في وصف الطبيعة في كتب تعليم اللغة العربية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى