«الزمن الموحش»… بطلها متخفّف من دوره… وفلسطين أتت لصقاً!
محمد رستم
كلّنا نعلم أنّ العنونة هي الثيمة التي تكثّف المحاور الدلاليّة في المنجز الأدبي، وقد عنون الأديب حيدر حيدر مرويّته الجديدة «الزمن الموحش»، مقدّماً للمتلقي الخبر الموصوف «بالوحشة». بعد أن ألقى بالمبتدأ طي الكتمان، وإذا كان الكاتب قد جاء بالخبر معرفاً «بأل» فبين العهدية والجنسية منهما يتوه حادي بحثنا ليلقي رحله في الجوّ العام للمرويّة فيغدوعن سابق ترصد ومعرفة بها وتترسّخ جذور العهدية بذاك الزمن الذي نحا الكاتب عليه باللائمة، فعلق على مشجب أيامه كلّ الأوزار، مع أنّه أي الزمن بريء براءة الذئب من دم يوسف، لأنه ليس أكثر من البعد الرابع للمكان فهو مجرد وعاء حيادي. لكن الكاتب أخذنا ببساطة القول «أيام سودا… زمن أغبر.. وقت نحس»، وغاية الكاتب توصيف الحالة الاجتماعية والحياتية في فترة معينة باعتماد الزمن الموصوف.. وتصحّ الرواية لأن تكون انموذجاً فاضح الملامح لتأثّر الأدباء بالصرعات الغربية. فروحها ـ وإن كانت عربية اللسان والمحيط ـ فهي غربيّة النفس. فقد اعتمد الكاتب من حيث التقنيّة الروائيّة على ما يسمّى تيار الوعي والاسترجاع، وتداعي الأفكاروالأحلام. مما يمزّق خارطة المكان كما أنّه يفتت التراتبيّة الزمنيّة بانتهاك خطيّة الوقت عندما يقطع خيط التسلسل الزمني… إن هذا النوع من التقنيّة يحطّم «الزمكانيّة» في المرويّة معتمداً هلاميّة المشاعر المتداخلة مع ضبابيّة الأحداث.. كما تظهر غربة الرواية عن محيطها الاجتماعي في الإباحيّة الجنسيّة وكذا في ردّة فعل الأبطال على الرداءة وانكسار الحلم مماولّد حالة من الضياع والإحباط وضيق فضاءات الحياة، وبالتالي التذمر المستمر والهروب إلى الخمرة والجنس كحالة من الألم السبّي. مما يذكرنا بأجواء الأبطال في العالم الوجودي الروائي روايات ألبير كامو وغيره والمحور الدلالي الأهم في الرواية هو انكسار الحلم ووجع الخيبات من إخفاق التغيير في بلورة أهدافه في العدالة والتحرير ومدى تأثير ذلك على روح المثقف حيث هامت تلك الروح بعد أن فقدت توازنها لكن لتنحدر إلى أزقة التيه…
المرويّة إذا تعرض بلداً منكوباً بينابيعه في زمن شحّت فيه حفنة أوكسيجين فبات جوّه كابوسياً ضاغطاً ونضبت آبار الأمل مما أدّى إلى انسداد روحي واختناق الذات في أعماق البطل وهذا ما فجّر وجعاً إنسانيّاً لا يحتمل وبدا البطل وكأنّه يحمل أطناناً من القهر وغيوماً من الألم والانكسار. وكيف لا وهو من المثقفين المبدعين الأكثر إحساساً والأروع في أي بيان إحصائي للجمال فهو من سدنة الفرح وممن منّى النفس بإرهاصات التغيير..
ولم تظهر أحداث الرواية أيّ دور للبطل فيما وصّف بالتغيير أو الثورة التي يتباكى على ضياعها وانحرافها عن سكّة سيرها فبدا كأنّه ينعي ميتاً وهو غريب عن أصحاب العزاء ممّا جعل حالة الانكسار التي يعاني منها البطل تبدو وكأنّها ادعاء وتظاهراً بل كأنّه مدّعي حزن وألم فيشعر المتلقي بمجانيّة مشاعره غير المقنعة بل تبدو أحياناً حشريّة وخارج السياق حتى أنّ ذكر قضيّة فلسطين جاء وكأنّه لصق على جسد الرواية.. وعلى ذكر الثورة نذكّر أنّها بالأساس هي استجابة لنداء أخلاقي يدعو إلى الخير والعدل والجمال، ينبعث من أعماق النفس المغمّسة بالنور . والمثقف الثوري الحقيقي هو الذي يوشّح بدائع روحه بخميرة العفاف فيكون القدوة النظيفة وهو يبذر غلاله في تبر الحياة. والرواية تقدّم أنموذجاً مغايراً، إذ تصور خروج المثقفين اليساريين، الشيوعيين الثوريين كماورد فيوصف البطل على قيم المجتمع الطبقي الظالم والتمرّد عليها جسّده البطل وصحبه بشرب الخمرة والإباحية الجنسيّة وهذا تحطيم للروابط الأسريّة. والمرويّة هي باختصار إدانة واضحة الملامح لشريحة المثقفين الثوريين من خلال عرض نموذج فاسد فهو بالوراثة داعر ومدمن خمر وكأن الكاتب يريد القول بأنّ البذرة لا تنتج ثماراً أخرى…
لكنّ هذا النموذج لا يتفق مع جيل المثقفين المشمولين بزمن الرواية والذين ينتمون بغالبيّتهم إلى طبيعة الريف النقيّة الصافية والتي لا تعاني من العقد الجنسيّة الصاخبة ولعلّ البطل يمثّل إيديولوجيا وليس حالة فرديّة معينة ولعل البطل لجأ إلى الجنس هرباً من الواقع أو للانتقام من الإخفاق وكتعويض عن خسارته في الحياة أوتعبيراً عن ضياع ثلاثي الأبعاد فبات يرى في العشوائية الماجنة التي يعيشها لذّة تخمد نيران الوجع في أعماق هو لعلّ المستهجن الصارخ هو خيانة البطل لمعظم أصدقائه وإقامة علاقات جنسيّة مع نسائهم وهنا تظل كل الأسباب عرجاء ولا تسوغ هذه الحالة التي بدت لطخة سوداء على جبين الزمن وإذا كانت الوحوش في أعماقه غير مدجنة فهذا يعني نفيه عن خارطة القدوة والمثل الأعلى فأفعاله جاءت ترجمة لأوثان ضياع هوغير مدرجة على روزنامة القيم والأخلاق. وكلنا نعلم أنّ كثيراً من الكتاب يجعلون من تصوير العمليّة الجنسيّة جزرة غواية لجذب المتلقّي لكن تكرار التلويح بها يفقدها ألقها وبخاصة إذا بالغ الكاتب في دسّ هذه الجزرة أمام المتلقي في كل حين.. ومن الملاحظ أنّ الكاتب لم يمهد للفعل الجنسي في السياق السردي فبدا في كثير من الأحيان نافراً بل وكأنّه مجرّد عبث كما أنّ تداعيات اللاوعي واختلاط الواقع بالخيال والحاضر بالذكريات خلق جواً من الأمشاج خالياً من الجدوى تدخل المتلقي في دوامة من المتاهة فيحبط عندما يكتشف أنّه لم يفز من ثمار القفلة إلّا بالجوز الفارغ وقد حاول الكاتب أن يستولد من الوجع البهائية الجماليّة فجاء السرد شعراً باللون والرائحة والوجع وبذلك يكون قد خرج بالسرد الحكائي إلى السرديّة التعبيرية. التي تسحب انتباه المتلقي إلى فضاءات الخيال الشعري مما يضعف قدرته على استجماع خيوط الحدث ومتابعة حركة الشخصيّات مما ينعكس سلباً على فهم الجوّ العام للرواية ولعلّ ص147 تلخص مقولة الرواية في بلاد رجمت أنبياءها وفرسانها اعتكفوا في الخمار داخل خزائن المالو في المواخير.. وراحوا يشرعون حراب الفتوح ويحرّرون فلسطين واسكندرون.. هناك بانون للعربي الجديد مجداً من الضوضاء والعطالة . كاتب سوريّ