«في حضرة العشق» للشاعرة خديجة بنعيسى… من سلطة الكتابة إلى كتابة الفناء
ليندا نصّار
تشيد الشاعرة خديجة بنعيسى في ديوانها «في حضرة العشق» مقامات احتمالية لمعنى العشق بما هو بحث عن حقيقة المحو والفناء داخل الذات وعوالمها، وذلك في اثنتي وعشرين قصيدة صادرة عن «دار النهضة العربيّة» 2018 إذ تعمل فيه على تشكيل فلسفة عميقة انطلاقاً من الكتابة باعتبارها أثراً يقاوم من داخل الوعي بالمسافة لبناء دلالة العشق وتوسيعها عبر حدّين على مستوى الموضوع الجمالي: يتعلّق الحدّ الأوّل بالعشق الإلهيّ المتعالي التواق إلى التوحّد مع النور الذي يشعّ من جذور الروح، والثاني: يرتبط بالعشق الإنسانيّ بوصفه ميلاً نحو حياة غير تامّة المعنى تكتمل بالرغبة في محو المسافة، وتتمحور أحداثها خصوصاً على هذه الأرض.
إن ترجمة الأثر عبر وسيط الكتابة الشعريّة في هذا الديوان الشعري لا يرتبط بالدعوة إلى التوحّد مع فكرة العشق على نحو ما هو ماثل في تصوراتنا عنه إذ تصير صورته تتحول بتحول الرؤيا الشعرية فيه لأنه عشق يتماهى وموسيقى الداخل، ويتشكل وفق سيرورات يمكن تتعبها منذ الإهداء وتذكر غياب العشق الأول «الأب» بوصفه معادلاً موضوعياً لجدليّة الكتابة كشكل من أشكال قهر الموت رمزياً.
تفكك الشاعرة ثيمة العشق بوصفها عصب الحياة عن طريق جعل صورة الرجل الشرقي وجهاً لوجه مع مرآة الشوق في تمزّقاتها وتغليفها بواسطة الرمز الذي يتخذ من الشوق إلى الوالد كشوق لملاقاة الله جراء الغياب وسطوته. كما تنفتح على حمولات لرمزيات عديدة تعيد بلوتها انطلاقاً من تأمل عميق لعلاقتها بثنائية الجميل والمغلف كما يظهر في ذلك من خلال استعادة رمزيّة يوسف على سبيل المثال لا الحصر.
تقدّم الشاعرة قصائدها انطلاقاً من رؤية جماليّة تعبّر عن حياة شخصية امرأة متخيلة تعيش حالات عشق في قصائدها وحضوراً للذات فيها. وتتدرّج القصائد من الواقع المعاش إلى تخيّل الشعور بالامتلاء من اللحظات الفارغة، وعلى هذا النحو، يصبح العشق بالنسبة إلى الذات صلاة مدرسة وتعليماً وتواضعاً وامتلاء يغطّي الجزء الناقص من الإنسان وهو حرّيّة بل هو نور وسراج. وهنا تقصد الشاعرة العشق الإلهيّ الّذي يلامس أعلى القيم وأسمى طبقات السموات. «علّمتني أنّ العشق في قاموس الناسكين، كصلاة لوجه الله، عند كلّ حين، أنّ عفو الكاظمين، في حضرة العشق امتلاء، انحناءة الجفن للعين، تواضعا لا اعتلاء-علّمتني، حين يمتلكني، هذا العشق وجعاً، لا يسعني إلّا أن تكتحل به، عيوني وهجاً، لأستنير فيه، صراط نور وسراجاً».
حيث يبنى معجم معظم القصائد على العشق الّذي يولّد العفو، والصمت والهمسات والإصغاء والحضور والغياب ونجد في قصيدة «في ملاقاة الله» حنيناً وشوقاً للقاء الله في معابد الروح بعد انتظار طويل.
يجسّد هذا الديوان سيرة حياة ودرباً متواضعاً يسلكه الإنسان لتقصّي العشق الإلهيّ، فالعبور لن يتمّ إلا بواسطة العشق الذي يجعلنا نفكّر باحتمالات في المعنى. فترتبط قصيدة «اتركني يا رجلاً شرقيّاً» بقصيدة «في حضرة العشق» عبر الفعل «علمني» : تعليم العشق الإلهيّ على يد الأب وتعليم العشق بمعناه المألوف على يد الرّجل الشرقيّ، فالشاعرة تستمدّ معرفتها من والدها الّذي يحضر بصورة الرّجل المتميّز بصفات الإنسان المثاليّ، وتنمّ كتاباتها عن طفولة ما زالت تتمنّى أن تعيش في دائرتها لأنّ فقدان هذه المرحلة معناه الفراق وغياب الوالد بسبب الوفاة.
كما يشكّل موضوع الحبّ محوراً في هذا الديوان بحيث يتجلّى بأبهى صوره وتبدو المرأة إطاراً لهذا الحبّ وتقارب الشاعرة علاقة المرأة بالرّجل على أنّه حمايتها وهي تقدّم له الحضن الدافئ الّذي يدحض هذه القوّة الّتي لطالما طبعت صوره بها. فالمرأة هنا هي الأمّ والابنة والطفلة. من هنا يتدرّج الوعي عندها عبر المراحل الزّمنية أو العمريّة.
وتنفتح القصائد على عالم يحمل دلالات متعدّدة من حيث علاقة الإنسان بالآخر وبمحيطه. وتظهر القصائد أيضاً حالات تعبّر عن نفسيّة المرأة حين تحبّ وفي معظمها طغت حالة من السلام والأمل والإيجابيّة على الرّغم من صور الموت وفقدان الأمل الّتي أثّرت بشكل كبير وكان لا بدّ لأن تظهر في القصائد.
اعتمدت الشاعرة في كتابها الأسلوب السهل الممتنع المبنيّ على وصف الأحداث وتشكّلاتها. وتجدر الإشارة إلى أنّ صور العادات والتقاليد الشرقيّة قد استمرّت ولم تقف عند مكان أو زمان محدّد وهذه المراحل أظهرت تحوّل علاقة المرأة بالرّجل. ويتقابل الزّمن الماضي المبنيّ على الشعور بالأمان والامتلاء، بالزّمن الحاضر المنيّ على الخوف، ويشكّل هذا الأخير جسراً نحو المستقبل. كل هذه التحوّلات الّتي شهد عليها الزّمن ما هي إلا تحوّلات الأشياء وانتقالها من فضاء الأمل إلى قفص احتضار النور. بحيث تفقد المرأة المتخيلة في الديوان تلك النظرة أحياناً الّتي حملت استحقاقاً كبيراً للعالم وهنا يتغيّر كلّ شيء عبر الزّمان ما عدا القصيدة التي تصير رفيقة في مسيرة هذه التحوّلات الّتي تحمل شحنات دلالية تستمد مرجعياتها من سلطة الحنين داخل الصوت/ الأنا التي تترجم الذات الجماعية والتي تسعى إلى التوحد مع مقامات الحلم وترميم الماضي المجهض.
وتتّخذ الصور موقف الشاهد على العمر وما مرّ فيه من أخطاء طفت على ظهر الماء. وكأنّ الشاعرة في مواجهة دفتر حسابات ابتكرته لنفسها. كما تبحث خديجة بنعيسى عن عالم آخر تحاكي فيه الإبداع على طريقتها فيظهر ذلك من خلال عنصر التخييل أو المعاني التخييليّة الّتي ابتدعتها فحوّلت القصيدة وفق رؤية شعريّة متفاعلة مع الوجود.
تكمن جماليّة النصّ في طرح الرؤى والتعبير عن المواقف والأزمات بطريقة شعرية فتدعم الشاعرة نصها بشحنات شعورية تلمع في قصائدها كوميض يكاد ينطفئ لولا إيمانها بالأحلام الّتي تكاد تفقد بسبب ضياع الرّؤى وسط عالم كان جميلاً في ما حواه ماضيه.
خديجة بنعيسى بلغتها الشاعريّة وألفاظها القريبة إلى الأذهان كقصيدتها استطاعت أن تميّز قلمها للتعبير عن هذا الزّخم من المعاني بطريقة إبداعيّة مجسّدة تصوّراتها وأحاسيسها الّتي انطلقت من الذات إلى العالم في سياق شعريّ جميل. وقد عمدت إلى السرد الّذي تزي بالشعريّة العالية الّتي صنعتها الاستعارات.
يبقى من الحقّ أن نقول «في حضرة العشق» ديوان هو ديوان الأثر الجميل في ذاكرة الماضي، الحاضر، المستقبل، الجميل، العشق، الأمل والحياة.