«الميثاقية» تَشُلّ الديمُقراطية والتأليف! مَنْ يَفعلُها عون أم الحريري؟
محمد حمية
عند كلّ استحقاق دستوري يدخل لبنان في أزمة سياسية حادة يطول أمدها أشهراً وربما سنوات كحال انتخابات رئاسة الجمهورية أو تشكيل الحكومات. وهذا ما تواجهه البلاد في الوقت الراهن في مسألة تشكيل الحكومة مع مرور أكثر من شهر ونصف على تكليف الرئيس سعد الحريري لتأليف حكومة جديدة، أما السبب فهو غياب نصّ واضح في الدستور يُقيد رئيس الحكومة المكلّف بمهلٍ أو مواعيد محددة للتأليف، ولم يلحظ دستور الطائف مخارج أو حلول فيما لو طالَ أمد التشكيل وتجاوز المهل الطبيعية والمنطقية.
ومع الأخذ بعين الاعتبار الثغرات في النصوص الدستورية ومن دون استبعاد العوامل الإقليمية المؤثرة على لبنان وحجم ارتباط أغلب الأطراف السياسية المحلية بعواصم القرار في العالم، وهذا يلعب دوراً سلبياً في إنجاز الاستحقاقات لا سيما تشكيل الحكومات، إلا أن السلوك السياسي الخاطئ في نظام برلماني ديموقراطي كلبنان يقوم على قاعدة موالاة تحكم ومعارضة تعارض يجوِّف جوهر هذا النظام وينسف نتائج الانتخابات النيابية.
فمن بديهيات تأليف الحكومات في ديموقراطيات العالم لا سيما الغربية، أن الأكثرية النيابية تحكم والأقلية تعارض، فيما تلعب البرلمانات دورها الأساسي إضافة الى التشريع في الرقابة على الحكومة، لكن عند كل توجّه نحو تطبيق روح الديموقراطية في لبنان لا سيما بعد إجراء انتخابات نيابية جديدة للمرة الأولى على قانون النسبية، نرى بأنها تُواجَه بـ»الميثاقية الطوائفية»، ما يجعل من الصعب الجمع بين الديموقراطية والميثاقية والطوائفية التي تعتبر سمة النظام السياسي الحالي، ما يولد معضلات في معظم الاستحقاقات السياسية والدستورية الكبرى مثل انتخاب رئيس الجمهورية ورئيس المجلس النيابي وتكليف رئيس للحكومة وفي التأليف.
ما يدفع للتساؤل: إذ كانت هناك صعوبة في تشكيل حكومة تجمع بين الديموقراطية وتمثيل مختلف القوى السياسية والطائفية معاً، فلماذا لا يتمّ اللجوء الى خيار يوازن بين الديموقراطية والميثاقية؟ أما التطبيق العملي لهذا الخيار، فهو أن تحكم الأكثرية النيابية الجديدة وتعارض الأقلية.
في لمحة سريعة على الخريطة السياسية والطائفية في البرلمان الجديد، يمكن ملاحظة تنوّع واختلاط طائفي ومذهبي في ضفتي الموالاة والمعارضة، باستثناء الساحة الشيعية التي أنتجت الانتخابات ثنائي أمل وحزب الله على انسجام ووئام سياسي ووطني، فعلى الساحة المسيحية هناك أربعة أحزاب رئيسية: اثنان في الموالاة التيار الوطني الحر وتيار المردة واثنان في المعارضة حزب القوات اللبنانية وحزب الكتائب، وكذلك الأمر على الساحة السنية، حيث يُمثّل تيار المستقبل أقلّ من ثلثي النواب السنة ويشكّل الآخرون في المعارضة أكثر من الثلث، وعلى الساحة الدرزية رغم أن الحزب التقدمي الاشتراكي اكتسح معظم المقاعد، لكن هناك مقعداً واحداً يكسر الأحادية الميثاقية، إذ إن التيار الوطني الحر والمردة وثنائي أمل وحزب الله وحلفاءهما من السنة يمثلون أكثرية نيابية وافرة ما يمكنهما من تأليف حكومة بأكثرية تصل الى ثمانين نائباً وبرئاسة شخصية من فريق 8 آذار، في المقابل المعارضة لا تستطيع تأليف الحكومة بمفردها، لأنها لا تملك أكثر من 45 نائباً، ما يعني بأن التيار الحر وفريق 8 آذار قدموا تنازلاً سياسياً كبيراً ومنحوا الحريري فرصة لتحقيق الميثاقية، لكن ليس على حساب الفريق الأكثري. فهل يفرّط الرئيس المكلف بهذه الأكثرية كرمى لعيون «القوات» أم أنه سيتخذ المبادرة، هل يفعلها ويعلن حكومة منسجمة مع أكثرية عونية 8 آذار التي كلفته بالتأليف ويقبل بتمثيل القوات، بحسب حجمها الطبيعي؟ وماذا لو لم يُقدِم الحريري ويبقى رئيساً مكلفاً الى أمد بعيد؟ هل سينتظر رئيس الجمهورية موت حكومة العهد الأولى قبل أن تولد؟ وهل سيقف مكتوف اليدين أمام تآكل عهده لاسترضاء الحريري والقوات؟ فهل يفعلها ويوحي للأكثرية النيابية التحرّك للضغط على الرئيس المكلف والتلويح بسحب التكليف منه ويدعو الى استشارات نيابية جديدة؟
تقول مصادر سياسية بأن خطوة كهذه ستواجه بالميثاقية أيضاً إذ إن وصول الأقوى في طائفته في الطوائف الثلاث الكبرى الى سدة الرئاسات الثلاث تحوّل عرفاً. وهذا العرف الذي أوصل العماد ميشال عون الى قصر بعبدا والرئيس نبيه بري الى رئاسة البرلمان والرئيس الحريري الى رئاسة الحكومة، ما يعني أن إقصاء الحريري على الرئاسة الثالثة سيفجّر أزمة ميثاقية في وجه العهد، وإن خسر رئيس المستقبل ثلث النواب السنة، ما يعني أن لا حكومة من دون رئاسة الحريري للحكومة، وقد بدا الصراع واضحاً على مُلكية «الفيتو الميثاقي» في الحكومة بين القوى السياسية والنيابية، حيث يرفض الحريري حتى الآن أن يمثل سنة المعارضة في حكومته للاحتفاظ بـ «ميثاقية السنة» طيلة مدة حكومته، فيما يقاتل رئيس اللقاء الديموقراطي النائب السابق وليد جنبلاط بشراسة لانتزاع الميثاقية الدرزية من فم العهد القوي، بينما كشف تفاهم معراب تقاسم القوات اللبنانية والتيار الحر الميثاقية المسيحية على حساب القوى الأخرى، ما يعني تحوّل «الميثاقية» ذريعة للاستئثار والاحتكار وشلّ الديموقراطية والحكومة والاقتصاد والبلاد برمتها.
ويبقى السؤال لماذا لا تكون الديموقراطية الذي يتغنى بها الجميع هي الفيصل للأزمة القائمة؟ أما الخطورة بما يسمّى حكومة الوحدة الوطنية هو دفن المعارضة في مهدها، إذ إن كافة القوى النيابية ستكون ممثلة في الحكومة ما يعني غياب الصوت المعارض إن في المجلس النيابي وإن في الحكومة، وبالتالي تجريد الشعب من أي رادع ووازع لمواجهة أداء وسياسات السلطة.