جواد صيداوي… عطاءٌ ثريٌّ بالجنى

د. عبد المجيد زراقط

جواد صيداوي، قاصٌّ وروائيّ وكاتب مقالة، ومترجم ومربٍّ وإداريٍّ ناجح.

أكتب عن جواد صيداوي أديباً وصديقاً عزيزاً آلمني رحيله.

أكتب عنه، وأراه إلى جانبي يبتسم كعادته. وكما عهدته، يمجُّ أنفاساً من «سيجارته»، وينفثها، فتتشكَّل حلقات الدُّخان، يتابعها، و«يفقع» ضحكته، ويشير إلى «سيجارته» التي توهّج رأسها، ويقول: «فاتتك هذه النِّعمة»، وقبل أن أجيب، يضيف: «يا صاحبي، ما قصَّر في العمر دخَّانٌ ولا سهر…». ثم ينحني، ويهمس لي: «ها أنت تكتب عمَّا بقي من جواد صيداوي…، هوذا ما بقي، ويبقى. هو الأدب كنت أحلِّي به الوجود، فيغدو محتملاً، وممتعاً، وها هو، بعد الموت يبقي ويُبقى. أكتب، يا صاحبي، بموضوعية، كما عرفتك، ولن أعاتبك، إن لم أتفق معك، كما لم أعاتب يوماً أحداً على ما كتبه عنِّي، وعن مؤلَّفاتي».

أكتب عن جواد صيداوي روائياً صديقاً، وبي أسىً لرحيله، ولآنسُ بعالمه الرِّوائي، ولأقدِّم معرفةً نقدية بنماذج من رواياته هي: «العودة على متن الرَّحيل»، و«أجنحة التِّيه»، و«صرنا على الليسته»، «وفساتين هندومة»، فعسى أن يكون، في هذا الصَّنيع، ما يفيه حقَّه، وما يقدِّم ضوءاً لقرَّاء آتين يسعون إلى معرفة روَّاد كتبوا، وأثمرت كتاباتهم عطاءً ثريَّاً بالجنى.

في «العودة على متن الرَّحيل»، نلحظ لعبة القدر وعبثيَّته، فـ«أحمد شمران»، الشخصيَّة الرئيسية من الرِّواية، يقرِّر العودة إلى وطنه. وفي وعيه ولا وعيه «حلمٌ» بتنمية هذا الوطن والنهوض به، فيمتطي متن طائرة لتقلَّه إلى حيث يحقِّق حلمه، لكن القدر يلعب لعبته، فتسقط الطَّائرة، ويموت المغترب، وهو في طريق العودة على متن الطَّائرة المفترض أن تعود به إلى وطنه ليحقِّق حلمه، فيموت الحلم، ما يثير سؤالاً مفاده: هل هذا هو قدر اللبناني أن يخرج من «المكان الطَّارد» حيث يفقد المكان الذي يحقِّق فيه ذاته، فيهاجر بحثاً عن هذا المكان في بلاد الاغتراب، وإذ ينجح، ويعود ليحقق حلمه يموت بـ«لعبة القدر»، وتتكشف عبثيَّته؟ ويثار هنا سؤال آخر: هل يريد صيداوي أن يقول: هوذا عبث الحياة؟ وهل كان قوله هذا باعث البسمة السَّاخرة التي كانت تطلُّ على شفته كلما احتدم الزُّحام من أجل شأن من شؤون هذه الحياة؟

في «أجنحة التِّيه»، وهي ثلاثية تتألَّف من «الوكر» و«الإقلاع و«تونس»، تتمثل إشكاليَّة التحوُّل بالسِّيرة الذاتيَّة إلى رواية؟ ويُطرح السؤال: هل هي سيرة ذاتيَّة، أو رواية ثلاثيَّة، أو سيرة ذاتية تتخذ بنية روائية؟

تفيد قراءة هذه الثلاثية أنها تتَّصف بالميزة الأساس للرِّواية، وهي أنَّها تصدر عن منظور يرى إلى وقائع السيرة الذاتية، بوصفها مادَّة أوليَّة، ويختار منها، وينظم ما يختاره، لينطق برؤيته إلى عالمه، والسؤال الذي يثار هنا هو: ما هو هذا المنظور الذي رأى منه صيداوي إلى عالمه؟ يكشف عنوان الثلاثية، وهو: «أجنحة التيه»، عن تجربة تتصف بالتغيُّر السريع سرعة الطَّائر في طيرانه: «أجنحة»، وهو تغيُّر يفضي إلى ضياع: «التيه».

تفيد قراءة هذه الثلاثية أنها تروي قصَّة التغيُّر السريع الذي عاشه جيلٌ عاملي، ولد في الرّبع الأوَّل من القرن العشرين، حيث تشكَّلت الدُّول التابعة مركزاً عالمياً تحكَّم بمسار نشوئها ونموّها وتطوّرها، وكان همّ هذا الجيل الأساس مناهضة هذا التحكُّم، والسَّعي إلى تحقيق التحرُّر والنموُّ الوطنيَّين، وفي سياق هذا السَّعي تبرز دلالة «التِّيه المجنَّح»، وقد اتخذ صيداوي من وقائع من سيرته الذاتية مادة أوَّلية لثلاثية روائية تروي سيرة هذا الجيل الساعي إلى التحرُّر والتنمية الوطنيَّين، والذي كان أحد أبنائه الفاعلين على غير مستوى، والواضح أن هذا الجيل واجه قدراً متحكِّماً، فحاول أن يصنع قدره، وقد تمثلت سيرة هذا الصنيع في نصٍّ قصصي تمليه انتقائية الذاكرة، ويؤدِّيه الراوي العليم، بلغة تتنوَّع بين التقريرية والشعريَّة، ولا تخلو من تأثير لغة البحث والمقالة.

في «صرنا على الليسته»، توافرت مادَّة روائية تتمثل فيها قضيَّة إنسانية كبرى وخالدة، وهي قضيَّة مواجهة الإنسان للعجز والموت، فالمادة الرِّوائية الأولى وقائعية معيشة، فصديقه الأوَّل السيِّد بديع بهيج أبو خدود هو الذي مات، وصديقه الثاني عادل حمود عبدالحسين حامد هو من همس في أذنه عندما أُنزل جثمان الميت إلى القبر: «صرنا عالليسته»…

يقتضي تحويل المادة السيرية إلى رواية أن يتصل الكاتب بهذه المادة، وأن ينفصل عنها في آن، يتصل بها ليعرفها وينتقي منها من منظوره، وينفصل عنها ليقيم منها، ومن منظوره، أيضاً، بناء متخيَّلاً ينطق برؤيةٍ إلى القضية الإنسانية التي تثيرها.

يبدو واضحاً أن الفضاء الروائي لـ«صرنا عَ الليسته» هو: إن الموت هو قدر الإنسان، وهو هاوية يبحث الإنسان عن منقذٍ ومَنْفَذٍ منها في آن، الإيمان بالله تعالى، كما يقول نجيب محفوظ ينقذ من العبث في الدُّنيا ومن الفناء في الآخرة، والسؤال الذي يطرح هنا: ما المَنْفَذ المفضي إلى جعل هذا القدر/ الهاوية محتملاً، وممتعاً!؟

تفيد قراءة الرِّواية أن المَنْفَذ يتمثل في أشياء منها: الحبُّ، الكتابة، السَّعي إلى جعل العيش مريحاً وسعيداً، ولعل هذا ما يفسِّر غزارة إنتاج جواد صيداوي الروائي في مرحلةٍ من العمر شعر فيها بأن عليه أن يشغل نفسه عن «مهزلة الوجود»، كما سمَّاها، وأن يعطي ما يجعله يعبر إلى البقاء، من طريق الأدب الذي يقهر الزَّمن والموت اللذين يقهران الإنسان.

في «فساتين هندومة» نقرأ حكايات أناس تضمَّنتهم، كما جاء في هذه الرواية، «لائحة مساطيل طبرنا»، هل «طبرنا» هي النبطيَّة، فتكون المادة الأولية لهذه الرِّواية هي سيرة هذه المدينة في مرحلة من الزَّمن؟ وهل يصحُّ أن نقول: إن هذه المدينة: «طبرنا» ترمز إلى الوطن؟

حكايات «مساطيل طبرنا» تُتَّخذ مادَّة تندُّر، وقد انتظمت مادة التندُّر هذه في مسار روائي قوامه أخبار أناسٍ غير سويِّين، ما يعيد إلى الأذهان كتب القصص التراثية العربيَّة. وإن كان من إشكالية، هنا، فهي إشكالية التحوُّل بهذه المادَّة، من التندُّر، إلى مبنى روائي تشكِّله رؤية تتمثل الواقع وتمثِّله في شكل يفيد كاتبه، واعياً أو لا واعياً، من التراثين القصصيَّين: القديم والحديث.

إن رواية «فساتين هندومة» رواية تتشكل من منظور يرى عبث الوجود وركود العالم العربي، وتشوُّه أناسه، وتتالي هزائمه، ويرى في الوقت نفسه، أنَّ هدهداً يولد، وقد يأتي بالبشارة. ويبدو واضحاً أن هذه الرِّواية تتخذ بنية روائية تتأثر بتراث التندُّر العربي، فتمثِّل تجريباً يفيد من أشكال تراثية في بناء رواية حديثة.

تفيد هذه القراءة السريعة، في نماذج من روايات جواد صيداوي، أنَّه كان يرى إلى الحياة من منظور إنسان يسعى إلى أن يكون هذا الوجود ذا جدوى، وأن يكون قدر الإنسان فيه محتملاً وممتعاً، فاتخذ من وقائع الحياة المعيشة، وخصوصاً من سيرته وسير شخصيات ومدن يعرفها، مادة روائية أولى تمثِّل قضايا وجودية وإنسانية كبرى، وواجه إشكالية تحويل هذه المادة السيرية إلى روايات، مستفيداً من التراثين القصصيين: القديم والحديث، فوُفِّق إلى ذلك، ويبدو جليًّا أنه سعى إلى أن يحلِّي «مهزلة الوجود» المرَّة، ويجعلها محتملة، وممتعة في حالات الإبداع الأدبي الذي أتاح له أن يقهر المرارة والعجز والزَّمن.

قاصّ وناقد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى