هل يقبل الروس بخنق إيران؟
د. وفيق إبراهيم
يحتلّ الإصرار الأميركي على تقليص الدور الإيراني في الشرق الاوسط رأس برنامج عمل القمة التي تجمع بعد أيام عدة في العاصمة الفنلندية الرئيس الأميركي ترامب الى نظيره الروسي بوتين.
وتسبق قمة هلسنكي حملة عقوبات ومقاطعات أميركية غير مسبوقة تصرّ على خنق الدور الإقليمي للجمهورية الإسلامية وتساندها دول الخليج و»إسرائيل» بعنف غير مسبوق مقابل هدوء أوروبي ورفض متّزن لروسيا والصين وتركيا.
ما تطلبه واشنطن في الحوار لم تحققه حتى في الميادين العسكرية التي لا تزال مشتعلة من العراق الى سورية فلبنان واليمن، فكيف يمكن لها إنجازه بقمة سياسية مع طرف روسي ليس معادياً لإيران أو أن مصالحه الإقليمية لا تتعارض معها؟
تتربّع إيران اذاً قمة الحوار بين ترامب وبوتين والأسباب واضحة. فهلسنكي مشروع لإعادة تنظيم النفوذين الأميركي والروسي في منطقة الشرق الاوسط في ضوء عاملين مستجدَّيْن:
صعود قوي للدور الروسي فيه مقابل تراجع أكبر للهيمنة الأميركية التاريخية عليه. وهذا يتطلب على الفور ربط مكامن القوة والضعف للبلدين في مناطق مختلفة في العالم، ومعالجة مصالحهما في إطار من اقتسام النفوذ. هناك اوكرانيا والحصار الذي يفرضه حلف الناتو على مقربة من روسيا وما يتهدّد قلب النفوذ الأميركي في الخليج من مخاطر يمنية وعراقية وأخرى تنتج من احتمالات التنسيق السوري العراقي وتداعياته المفترضة على الهيمنة الأميركية قرب أكبر احتياطات للنفط والغاز…
ولأن لإيران نفوذاً كبيراً في المناطق المجاورة للخليج في العراق واليمن وتحظى بأدوار عميقة في سورية ولبنان المجاورين لفلسطين المحتلة. ولديها صداقات مع «يمن» حوثي يُمسِك بمفاتيح العبور من هرمز الى بحر عدن فباب المندب وقناة السويس متفرّعاً أيضاً من ناحية بحر عدن الى جزيرة سقطرى. فالمحيط الهندي وهذا يمنح إيران أدواراً استراتيجية على البحر المتوسط من جهة سورية ولبنان والبحر الأحمر والمحيط الهندي من ناحية اليمن. ويشكّل بحر العرب في العراق، ومضيق هرمز الفاصل بين إيران والإمارات وعمان نقطة إمساك ببحر الخليج.
إيران اذاً قوة شرق اوسطية وازنة لها مفاتيح في لعبتي الاستقرار من جهة والحرب من جهة أخرى.
لذلك فإن الأميركيين منزعجون الى الحد الأقصى لإحساسهم بما يتهدّد مصالحهم في بلد كإيران يجمع بين القوة الايديولوجية التي تجعل له موقعاً في أفغانستان الهزارة وباكستان 30 من السكان مع الكثير من التجانسات العرقية الفارسية في بلدان آسيا الوسطى وبين القوة السياسية المرتكزة على مجابهة نفوذ أميركي تطور استعماراً فعلياً..
هناك أسباب إضافية للقلق الأميركي وتتعلّق بعجز الدول الشرق أوسطية الموالية لها من التحوّل قوى إقليمية وازنة في المنطقة.
فـ»إسرائيل» المنزعجة بعمق من الصعود الإيراني لأسباب ايديولوجية تجسّد قوة شعب تعجز عن بناء دور إقليمي، وكذلك السعودية التي خسرت مواقعها في كامل العالم الإسلامي والشرق الأوسط للسياسات الضعيفة والمتواكلة على الأميركي الإسرائيلي وصولاً الى حدود تحولها أداة أميركية إسرائيلية في حروب اليمن وسورية والعراق وليبيا وتونس ولبنان… لم يعُد هناك شيء سعودي في السياسات الإقليمية السعودية ما أدى الى انهيارها فأين السعودية في سورية والعراق؟ إلا بتصريحات إعلامية لا تخلو من الفتنة وتركيا بدورها تحوّلت قوة شغب تستفيد من التناقض الأميركي الروسي لأداء دور بسيط لا يتناسب مع حجمها.
بالمقابل يتوسع الدور الاقليمي الإيراني لينافس الدور الأميركي إنما من دون التماثل معه في نزوعه الى الهيمنة الاقتصادية والاحتلالات ودعم الدول «القرون أوسطية»، وذلك بالتركيز على عاملي الايديولوجيا الدينية الإسلام والتحالفات السياسية روسيا الصين .
هذه هي الأسباب العميقة التي دفعت واشنطن الى شنّ حرب اقتصادية هي الأضخم من نوعها في التاريخ، تؤسس لقطع العلاقات الاقتصادية لإيران بالعالم، ومنعها من بيع نفطها بإرغام الدول المستوردة منها على التوقف وعدم التعامل مع البديل السعودي.
الأهداف هنا واضحة. وهي إحداث تفجيرات داخلية بسبب الانهيار الاقتصادي المرتقب في إيران ما يؤدي الى انفجار يبدأ اجتماعي الطابع فقراء وينتهي بتفجيرات عرقية بلوش – كرد – عرب مدركاً حدود نسف العلاقات بين الفرس والآذريين.
هذه هي المناخات التي تسبق قمة هلسنكي.
ويريد ترامب من خلالها تأييد روسيا أو على الاقل دوراً روسياً يسهم في تنفيس الدور الإقليمي لطهران ابتداء من سورية لتمتعها بوزن إقليمي في لبنان والعراق والقضية الفلسطينية.
أما المقابل، فيبدأ من الإقرار بما يسمّيه الأميركيون «الاقتطاعات» الروسية من اوكرانيا في شبه جزيرة القرم والاعتراف بمركزية دور موسكو في سورية والانطلاقة التدريجية نحو إلغاء العقوبات الأميركية الأوروبية المفروضة على روسيا.
هناك مؤشرات تكشف مدى صعوبة المطالب الأميركية من إيران. فأوروبا لا تنسجم مع الهجوم الأميركي على طهران لأسباب سياسية واقتصادية وتستشعر ميلاً أميركياً لحل الازمة مع إيران على أسس توفر لواشنطن المزيد من هيمنتها الاقتصادية. وهذا ما تريده حصراً، لكنها تغلفه بغطاءات سياسية واخلاقية لمجرد التستر على الاهداف. وكذلك فإن الصين والهند وتركيا لن تتوقف عن استيراد النفط من إيران وإقامة علاقة اقتصادية عميقة معها.
لجهة الدول القابلة للعقوبات الأميركية فقد لا تزيد عن السعودية و»إسرائيل» والإمارات والبحرين وقد تنضمّ إليها مصر والسودان والأردن وجزر القمر وجيبوتي وعبد ربه منصور هادي.
لذلك، فإن واشنطن تدرس ثلاثة احتمالات: المضي في العقوبات الاقتصادية بشراسة مع ما يعنيه هذا الأمر من تدهور في علاقاتها مع حلفائها، ولإقناعهم فقد بدأت تطالب برفع حصصهم الإنفاقية في حلف الناتو.
اما الاحتمال الثاني فيتعلق بإقناع الروس بمجابهة إيران في سورية، مقابل حصرية النفوذ الروسي فيها، وينسى الأميركيون أن علاقة موسكو بطهران استراتيجية قد تتعارض في بعض التفاصيل، لكنها تتفق على ضرورة احتواء العدوانية الأميركية التي أسماها وزير دفاعها شويغو بالاستعمار الأميركي الجديد – الأمر الذي يؤكد أن روسيا تدرك أبعاد الألاعيب الأميركية الجديدة. هذا بالاضافة الى أن العروض الأميركية لا يُعطي الروسَ شيئاً ليس معهم، فهم في أوكرانيا وسورية من دون «حسنات الأميركيين».
لجهة الاحتمال الثالث، فمرتبط بتنظيم حرب إسرائيلية سعودية خليجية بغطاء أميركي مباشر وإسناد مصري أردني غير مباشر. ولهذه الفرضية مخاطرها. فهناك القدرة الإيرانية على تفجير كامل الشرق الأوسط من أفغانستان الى لبنان. وهناك الموقفان الروسي والصيني اللذان لن يقفا مكتوفي الأيدي أمام نيران لن تتأخر في الوصول إليهما.
بالاستنتاج يتضح عدم وجود مصلحة روسية صينية بخنق الدور الإيراني وبتفجير إيران. وهذا يجعل من قمة هلسنكي قمة للاعتراف بولادة عالم متعدّد القطب تحتكر أجنحته واشنطن وموسكو ومعهما الكثير من الدول الإقليمية الوازنة في اطار المنافسات غير المتفجّرة على مساحة العالم.
وقد تنجح القمة في منع تفجير الحرب الشرق أوسطية المرتقبة من خلال معبر هرمز عبر استيلاد آليات تلجم «إسرائيل» والسعودية من قيادة العالم الى حرب عالمية ثالثة مدمّرة وفتاكة.