عزّ الدين المناصرة يتذكّرغسان كنفاني… تُقبل التعازي في أيّ منفى!

«مرور أربعة عقود على استشهاده، نقول للأديب غسان كنفاني إن استشهادك يمثّل قيمة أبدية عليا، وأعمالك الأدبية التي أنجزتها في الفترة القصيرة من عمرك، ما تزال شجرة دائمة الخضرة في ثقافتها العربية، وميراثاً غنياً للشعب الفلسطيني الذي دفعت حياتك ثمناً باهظاً للدفاع عن هويته ووجوده على خارطة هذا العالم».

بهذه العبارات بدأ الشاعر عزّ الدين المناصرة رحلته في أوراق الذاكرة ليبوح بحكايته مع الشهيد غسان كنفاني. وقال: تعرفت إلى غسان كنفاني عام 1966 عندما كنت أعيش في القاهرة، حيث جاء شاعرنا الكبير أبو سلمى، وكان متوجهاً بصحبة غسان إلى غزة للمشاركة في المؤتمر التأسيسي لاتحاد كتّاب فلسطين. في تلك الأيام لم تسمح لي إدارة الحاكم المصري لقطاع غزة بالدخول، فتولى غسان وأبو سلمى تقديم طلب عضويتي للمؤتمر بعد إضافة تزكيتهما.

ويتابع المناصرة: التقيت غسان مرة ثانية في مهرجان الشعر العربي عام 1968، وكان ذلك اللقاء أيضاً في القاهرة، ثم أصبحت مراسلاً لمجلة «الهدف» الناطقة بلسان «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين».

ويروي صاحب «يا عنب الخليل» أنه حينما كان طالباً في السنة الجامعية الأولى في القاهرة، نشر له غسان ما كتبه في مجلة «فلسطين»، ملحق المحرر، التي كانت تصدر في بيروت، حيث كان مقرباً من حركة «القوميين العرب»، وصديقاً للجبهة الشعبية، ولهذا السبب تم استدعاؤه للتحقيق أكثر من مرة، حيث كانت الأجهزة الأمنية المصرية تتسلط على اليسار.

وبعد أن ارتشف ما تبقى من مرارة قهوته، نظر إلى البعيد في محاولة لاستعادة دفء لحظات سرقها من عمره الحافل بالعطاء، وقال: أحببت الجبهة الشعبية من خلال حبّي لغسان كنفاني، وكان لنا في بيروت عدة لقاءات، لم يخرج خلالها الحوار عن فلسطين وثقافتها، فلا أذكر أننا تحدثنا في أيّ أمور شخصية ولو لمرّة واحدة.

ويضيف: عندما استشهد غسان عام 1972 كنت في عمّان، لكنّني كنت ممنوعاً من السفر، فقمت بنشر قصيدتي التي كتبتها في رثائه بالصحف، وهي بعنوان «تُقبل التعازي في أيّ منفى».

وحول مشروع الشهيد غسان كنفاني، اعتبر المناصرة أن ما أنجزه غسان في سنّ محدودة إنجازاً عظيماً في مجال الرواية والقصة القصيرة والدراسات والرسم وغيرها، والأهم أن هذا الإنجاز كان عالي القيمة الفنية، فهو لم يدخل عالم الشعاراتية السياسية في أدبه.

إذا نظرنا إلى روايته «رجال في الشمس»، التي كتبها عام 1963، لا يفوتنا أن ندرك أنها من أهم الروايات العربية فنياً، ولا ننسى كذلك أنها كانت تبشر بصعود الهوية الفلسطينية، يضيف صاحب «جفرا».

ويلفت المناصرة إلى أنه في ذلك الوقت، كانت الهوية الفلسطينية مقموعة في كل المدن العربية، فبرز أدباء الهوية، وهنا تبرز قيمة ما كرّسه غسان، أديب الهوية الفلسطينية.

ويرى صاحب لا أثق بطائر الوقواق أن غسان مبدع أفكار… هكذا كان في رواياته التي صوّر فيها حال الفلسطينيين في المخيمات، حيث اقترب من الناس وعبّر عن مشاعرهم من دون افتعال… فقصّة «أمّ سعد»، مثلاً، ذات تركيب فنّي عالٍ، وفي الوقت ذاته تمثّل اقتراباً من الناس في المخيم. فـ«أمّ سعد» هي امرأة حقيقية كانت تعمل في بيت غسان الذي حاورها ببساطة لتجيب على أسئلته من دون أن تعلم أنه يكتب قصتها وقصة فلسطين.

ويضيف هو كاتب واقعي، لكن بدلالة أسمى من تصنيف الانتماء إلى الواقعية التي فُهمت في ذلك الوقت، سلباً، على أنها صورة فوتوغرافية للواقع: فغسان، الخبير الفني بالتقنيات العالمية مزج في رواياته، كرواية ما تقى لكم، تقنية الوعي واللاوعي، وحتى في «أمّ سعد» مزج بين القصة القصيرة والرواية، فهي مجموعة قصصية، لكنك تستطيع قراءتها كرواية متكاملة.

وعن الفرق بين غسان المسرحي وغسان الروائي، يعتقد المناصرة أنّ غسان المسرحي تأثر بالفكر الوجودي الذي كان شائعاً في ذلك الوقت، ولكن لا ننسى أنه كتب أعماله المسرحية في بداية مشواره ككاتب، أي أنه كان يبحث عن حلول فنية لأعماله، لكن النضوج بلغ ذروته في رجال في الشمس، التي جاءت لتتوج مشوار الفلسطنة الذي بدأه غسان في أرض البرتقال الحزين التي قام الاتحاد العام لطلبة فلسطين فرع القاهرة بطباعتها.

ويؤكد صاحب رعويات كنعانية أن طاقة غسان السياسية والنضالية جعلته يصل بقضية فلسطين إلى أقاصي العالم، إذ كان ينتمي إلى مدرسة النقاء الثوري، وفي انتقاله من الفكر القومي إلى الماركسية كان لا يزال يبحث عن فلسطين.

بدا صوت الشاعر قادماً من البعيد وهو يضيف أنقى من عاشرت كانا غسان وناجي، ثم ما لبث أن عاد إلى زمننا المجبول بـ«أبي الخيزران» وهو يقول: في ذلك الوقت لم يكن من الممكن تخيل الحالة التي أوصلتنا إليها «أوسلو».

ويتابع المناصرة: يفترض بالروائي والشاعر، والمبدع عموماً، أن يتمسك بالاستراتيجية، وألا يتعامل مع «التكتيكات» السياسية التي ترتبط بالمناسبات السريعة العابرة. لقد كان غسان وناجي يتعاملان مع فلسطين الكاملة التاريخية. لهذا ما زالت أعمالهما، ذات القيمة الفنية العالية، دائمة الخضرة.

وأشار صاحب «قمر جرش» كان حزيناً إلى أن غسان كان مثقفاً غير عادي، فجاء استشهاده لكونه عضواً في المكتب السياسي في «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، ولتأثيره الثقافي العالمي، الذي صار خطراً على الفكر الصهيوني… نعم… لقد كان غسان هدفاً ثميناً للجريمة الصهيونية.

وأضاف: لا تستطيع الفصل بين السياسي والثقافي، ولكن غسان كان يوازن بين أدبه وموقفه السياسي الذي لم يظهر في أعماله الأدبية بالمعنى الحزبي. موضحاً أنّه عندما تكون للمبدع قضيته، يصبح لزاماً عليه الموازنة بين تقديم أدب رفيع، وإبراز قضيته فنياً، لأنه يكتب أدباً لا مقالات سياسية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى