رواية «قبل أن تنام الملكة» لحزامة حبايب: الشتات الفلسطينيّ… الوعي المركّب

رامي أبو شهاب

في رواية «قبل أن تنام الملكة» لحزامة حبايب، يتشكّل الوعي بالشتات في مَواطن اللجوء غير الدائم، وهكذا نواجه بعتبة نصّية مهمة في تكوين معنى الشتات الفلسطيني المستمرّ والمركّب، حيث تبدأ الرواية من سرد حكاية عائلة فلسطينيّة انطلاقاً من «الرحيل الثاني»، أي الخروج من الكويت، وهنا يتحول الوعي بالشتات إلى نسق مركّب، فثمّة وعي آخر بالشتات غير الخروج الأول أي من فلسطين إلى دول اللجوء بوصفها سردية قد أنجزت.

يظهر الشتات بوصفه حالة حياة في الموقت، وهنا نقرأ تمركز الوعي بالصدمة والاقتلاع لأنّ هذا التوصيف نقيض الحياة الاعتيادية، وبذلك تنشط الرواية الفلسطينيّة للبحث عن ما هو اعتيادي وثابت، فنعاين نسقاً لمعنى غير مكتمل مبتور ومشوه، مع شيء من السخرية حيث تنشئ حزامة حبايب صورة للمجتمع الفلسطيني بحدوده القريبة إلى حد ما من أرض الوطن، أو الذاكرة الفلسطينيّة، وهنا تنهض الرواية على محكية العائلة التي وجدت نفسها في الكويت التي ارتبطت بذاكرة الفلسطينيين بوصفها الشتات الأقل ألماً، أو بوصفها الوطن الطارئ الأقرب إلى شروط الوطن القابل للاستدامة.

الصيغة والاقتلاع

في هذا الوطن شبه الطارئ يتطوّر الكيان الفلسطيني المشوّه والمجزّأ إلى نموذج، أو محاولة خلق وطن أقرب إلى الوهم، فيحاول أن يجد ذاته التي تركت في بعض الأمكنة هنا وهناك، إذ يبرز الشتات في الرواية من دون ضجيج، وبلاغة الخطاب الروائي المبنيّ على لغة عاطفية، أو عصبية متشنجة أو مثقلة بالإحساس المأسوي الناتج عن الصدمة، فثمّة ابتعاد عن أنساق المبالغة والتهويل. تتأسس الرواية على لغة تتخلل اليومي والمعاش حيث يجد القارئ الشتات، وقد تسلل إلى وعيه بحساسية بعيداً عن الثورية، والشعاراتية، فالرواية معنية قبل كل شيء بما قد انتهى له الشتات من وعي جديد بأن الفلسطيني مهما تعلق بالوطن الطارئ، أو البيت الأول فإنه يجب أن يتذكر بأنه في وطن غير وطنه الحقيقي ولذلك فهو سوف يبقى معرضاً للارتحال الدائم، أو للاقتلاع. ذلك الفراغ الداخلي الذي لا يمكن أن تملأه أي أوطان أخرى، ومع ذلك فعليه أن يتكيف مع الطارئ أينما كان، في حين أن الصدمة متوفرة حتى في الوطن المؤقت، وهذا أشد ما يكون لدى الجيل الثاني الذي لم يعايش صدمة الخروج من فلسطين، ولكن عايش الخروج من وطن اعتقد أنه وطنه أي «الكويت» إبان الاجتياح العراقي للكويت 1990.

«إن الحياة في بلد نفطي كالكويت لم تجعلنا كويتيين، كما كان أقرباؤنا الكثر الذين خلفناهم خلفنا في المخيمات يتهموننا أو يحسدوننا، كانت حياتنا في الكويت، في واقع الأمر، امتداداً لحياتنا التي كان يمكن أن تكونها في المخيم، موسومة بالشتات مع القليل من التحسينات والإضافات».

تشير شخصية «جهاد» أو الصوت السارد في رواية حزامة حبايب إلى أن «شقق النقرة» لا تختلف كثيراً عن مخيمات الفلسطينيين في «مخيم الوحدات» فهي ذات طابع غيتوي. مصطلح الغيتو يتكرر في الرواية الفلسطينية بهدف مجانسة الشتات على الرغم من اختلاف تموضعه، فمتعلقات البيت الفلسطيني وهويته واحدة، ومن ذلك أن معظم البيوت الفلسطينية تحتوي على صورة العم الشهيد، و النملية كما ساعة الحائط التي تأتي مع نستله، والزعتر، وتنكات الزيت… وتبقى ممارسة الفلسطيني في الشتات نسقاً على وجود إنساني، أو دلالة على حياة في أوطان الآخرين، ومن ذلك البنات اللائي يخطن ملابس للدمى، إذ تبقى الدبابيس على الأرض أو: «على البلاطات، فتغزّ أقدامنا الحافية لنضع ختم وجودنا بالدم على أرض ليست لنا».

تموضع الشتات بين الأبناء والأحفاد، يكاد يكون هاجساً يؤطّر سردية الشتات الفلسطيني كما يبرز في هذه الرواية التي تتخذ من استراتيجية « الحكي للابنة» تجربة سردية، أي نقل التجربة للجيل الآخر، ولهذا لم تجد حبايب أفضل من الاستناد إلى فعل الأخبار بتقنية سرد ألف ليلة وليلة، هي مرويّة تقوم على مركزين: الشتات، والقيم الأنثوية الكامنة للشتات بوصفها فعلاً مركباً ومعقداً.

ومع ما كل ما تتمتع به العائلة الفلسطينيّة من حذق من ناحية التصرف بالمال، وادخاره، غير أن القدر يمتلك دوماً خطة أخرى، فكما هو الشتات حدث قدري ينتج صدمة، ولا سيّما حين يكون بحجم ضياع الوطن، ولكن ماذا لو كانت صدمة أخرى نتجت بفقدان الوطن البديل أو المؤقت؟ أي وطن الشتات الذي سوف يقود إلى شتات آخر. ولعل جمالية النص تنهض على حيويته في اقتناص هذه الجزئية عبر الإحالة إلى هشاشة العالم الفلسطيني، وتعلقه في المؤقت والطارئ، لقد جسّدت الكاتبة واقع العائلة الفلسطينيّة بثقلها الكلي، على امتداد أجيال، فبدأت مع أسرتها، ومن ثم واقعها الشخصي، وأخيراً واقع ابنتها، وتوزّع هذه الحيوات بين بلدان، وأزمنة عدة. ولعل وجود فرع للعائلة في الكويت، أو إحدى دول الخليج، يعني أن تتمتع بعض الفروع بأفضلية مادية أو رفاهية ربما تكون زائفة، فواقع الفلسطيني في الكويت ما هو إلا امتداد لرحلة البحث عن لقمة العيش، ومحاولة البقاء والاستمرار في الحياة.

التنازع والاندماج

وبينما نطالع رواية «قبل أن تنام الملكة» إذ نتلمس تداعيات الشتات في ترتيب أوضاع المعيشة والحياة، والانفتاح على أفق المجهول والرغبة في مقاومة الفناء عبر متطلبات الحياة البسيطة، وتدافع الإنسان للبقاء. تسرد الرواية مجريات الحياة اليومية ضمن نبرة ساخرة، أضفت على الرواية جاذبية. فبين تضاعيف السرد نواجه إشارة تتصل بتحديات يواجهها اللاجئون الفلسطينيون حيث كان معظم أبنائهم يدرسون في المدارس الحكومية الكويتية، غير أن قراراً صدر ينصّ على حرمان أبناء الشريحة العظمى من هؤلاء الوافدين من حق التعليم المجاني، وهذا أفضى إلى تداعيات تتحدد بتآكل أرزاق هؤلاء المقيمين المضطرين للتوجه إلى القطاع الخاص للحصول على التعليم. وفي سياق آخر، تكثر الكاتبة من رصد صعوبات تدبر المال، وتجسيد النزاعات المستمرة بين أفراد الأسرة ضمن إيقاع الحياة اليومية، والمكابدة جراء كثرة الالتزامات. لقد تمكنت حزامة حبايب من عكس صورة العائلة الفلسطينيّة التي تتقاسم هذا السلوك الجمعي الذي يتشاركه اللاجئون والمشتتون في أنحاء العالم، فالرواية تتصل بالحياة، وإيقاعها مع غياب أي تنظير لظلال الأيديولوجي والسياسي، كما اللغة المتعالية، والمقولات الكبرى، إنها انعكاس، أو ربما أنساق من التمثيلات التي تتصل بالألم، والسخرية، والكثير من المفارقات والضحك والبكاء.

تتبدى إشكالية الاندماج والتنازع في رواية حزامة حبايب من خلال موقعين للشتات: هما الكويت والأردن، فالأولى لم تتحول إلى وطن على الرغم من الاستغراق بالحياة فيها، ومن أجل قهر الشتات تتبدى الحاجة إلى التعليم لتجاوز إشكالية اللاجئ والنازح والمشرد. ولكن ثمّة إشارة واضحة إلى التمييز بحق أبناء الشتات الفلسطيني في دول اللجوء، حيث تشترط جامعة الكويت معدلات تعجيزية كي يحصل الطالب على قبول في بعض التخصصات، ولهذا قبلت جهاد بدراسة الأدب الإنكليزي في جامعة الكويت لكونها مجانية على الرغم من حصولها على قبول لدراسة الهندسة من جامعة اليرموك الأردنية، أي أن ثمّة تحولاً في النهج الحياتي الذي تفرضه إيقاعات الشتات، وهنا تأتي الرواية على قصص بعض الفلسطينيين الذين قاموا بالخروج من المخيم، والتوجه إلى الغرب كألمانيا، وغيرها، بهدف الحصول على شهادات عليا من أجل إيجاد فرصة عمل في بعض دول الخليج، وهو مطمح تتشاركه الأجيال الفلسطينيّة إلى الآن.

وبينما نطالع إشكاليات الشتات الفلسطيني في الكويت، إذ تحضر الأردن بوصفها بلداً يستضيف جزءاً كبيراً من اللاجئين الفلسطينيين، وهي محطة من محطات التعبير عن مشاكل اللجوء الفلسطيني، وهذا ما نجده في كثير من العائلات التي تتواجد في الكويت بصورة شبه دائمة، ويحمل بعضها جواز السفر الأردني، ولهذا فلا بد من زيارة الأردن لا بوصفها وطناً أماً يمكن العودة له، ولكنه بوصفه ذلك المكان الذي يحمل معظم الفلسطينيين وثائق سفره، ولهم فيه أقارب، فهو بمثابة الوطن، ومع ذلك فهو يعدّ أكثر من وطن طارئ، وأقل من وطن حقيقي، فلا ذاكرة، ولا موروث، هو جزء من الشتات. فغالبا ما تكون تلك البيوت في أحياء الطبقة المتوسطة، أو في بعض الأحياء الشعبية المنتشرة في عمان، ومدينة الزرقاء، ومخيم الوحدات، وغيره، أي في تلك الأماكن التي نشأت بوصفها تجمعات فلسطينيّة كبرى.

مع احتلال الكويت يفقد الفلسطيني الاستقرار الظاهري، وهذا شبيه بفقدان الوطن للمرة الثانية. إن العودة هنا لا تتمثل بالرجوع إلى فلسطين، إنما إلى القيمة الطارئة والموقتة، وهنا نقع على الأثر السلبي والعميق للشتات الفلسطيني المركّب حيث يضطر الفلسطينيون للهجرة من الدول العربيّة المستضيفة نتيجة ظرف ما إلى أوطان بديلة، كما حصل في الكويت، والعراق، وسوريا التي تعد للبعض الفلسطيني البلد أو الوطن الوحيد الذين عرفوه، بل أن تحرير الكويت والعودة لها أمسى يماثل إلى حد ما تحرير فلسطين، والعودة لها.

لا شك بأن الارتحال إلى الأردن قد حمل إلى فلسطينيي الكويت إحساساً مضاعفاً بالشتات، أي أن تبقى على هامش الأشياء من مؤقت مألوف إلى مؤقت جديد: «زينت لهم نفوسهم الغشيمة أنهم مستقرون في وطن لم يكن لهم، كما تحمل حيوات من أمكنتها التي ألفتها وتقذفها إلى أمكنة غريبة، مقفرة حتى من الوطن المتخيل».

تأتي الرواية على بيان صور من حياة المجتمع الفلسطيني في الأردن، وبروز قضية التدين، إذ تصور النساء، وقد توشحن بالحجاب والجلابيب، وهنا إشارة إلى تراجع التيار اليساري أو القومي بشكل عام. هذا النهج يفسر بحالة من فقدان معنى الاندماج والتكيف في ظلال الشتات، ولا سيّما في دولٍ تعلي من الشأن الوطني، والقيم الوطنية، وبروز الاتجاه اليمني وعدائه المباشر للاجئ ولهذا فإن نموذج الهويّة الدينية يؤدي إلى تذويب الاختلاف الهوياتي، فالخطاب الديني ينطلق من معنى الأخوة الدينية حيث تتلاشى الفروق بين أصحاب الوطن أو أصحاب البلد المضيف، وبين الطارئين من اللاجئين والمشتتتين حيث ينصهر الجميع في بوتقة الأخوة الدينية، فلا عجب أن تنبثق التيارات الدينية من رحم المناطق الشعبية والفقيرة، وسكان المخيمات، وتحديداً في ظل عدم وجود برنامج وطني للتحرر، بالتجاور مع انهيار اليسار الثوري بسقوط الاتحاد السوفياتي كما انهيار مقولات «القومية العربيّة».

كاتب فلسطينيّ أردنيّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى