ترامب وفقدانه التوازن: بين إيران والاتحاد الأوروبي
د. رائد المصري
بهدوء… بات الأميركي مسلِّماً بقوَّة روسيا وبِما أنجزَه بوتين على المسرح الدولي خلال سنوات قليلة مَضَت، خاض معه النظام الدَّولي الرأسمالي المأزوم أخطر حروبه، محاولاً إعادة تموضع جديد يُنهي تَرَف النيوليبرالية المتوحِّشة ويُعيد تنظيم الأدوار القومية للدول الكبرى بحسابات مالية واقتصادية واستثمارات وتحالفات دولية تشكَّلت. وبدأت بطرح أوراقها السياسية وبدائلها الاقتصادية خارج الرَّغبة الأميركية وإطاراتها المُفْلسة لقيادة النظام العالمي. ومنها على سبيل المثال دول الاتحاد الأوروبي والقِمم الاقتصادية المتوتِّرة التي عقدتها مع ترامب، وكذلك العلاقة مع إيران ومحاولاته اليائسة لخنقها…
مهما تحدَّث البعض عن صفات الرئيس الأميركي دونالد ترامب وشخصيته المهزوزة والعنصرية وغيرها من الصفات والنعوت، فهذا لا يدلُّ على شيء سوى أنه نتاج أزمة بنيوية أصابت وأطاحت مؤسَّسات الدولة الأميركية العميقة من دون اعتماد قياس مزاج الشعب الأميركي، وما أوصلته إليه كارتلات المال والإعلام والصناعات العسكرية والحربية.. وهذا أمر شائك لا نودّ التفصيل فيه الآن…
الارتباك الواضح في نهْج وسياسات ترامب جعله يُسرع الخطى للبحث عن حلول لأزماتٍ يبدو أنَّها تتطلَّب مسارات طويلة وشاقة من النقاش والمفاوضات، وليس من خلال لقاء واحد مع الرئيس الروسي في هلسنكي أو تغريدة تويترية تترتَّب عليها قضايا حروب الإقليم أو تنتظم فيها المسارات مع أوروبا. وكانت المشاحنات الأخيرة في زيارته لها واضحة وتهجُّمه على المستشارة الالمانية أنجيلا ميركل، وعلى ألمانيا التي تشكِّل قاطرة الاقتصاد الأوروبي وبأنَّها مستباحة أمام استفراد السياسة الروسية بها. وهو بالمناسبة ليس من أجل رفع حصَّة موازنة الناتو من 2 الى 4 ، بل لأنَّ مشروع السَّيل الغازي الشمالي 2 المستمر بالتعاون بين ألمانيا وروسيا عبر بحر البلطيق لمدِّ أوروبا بالغاز والتحرُّر من ضغط أنابيب الطاقة الممتدة عبر أوكرانيا التي كان يضعها الغرب وأميركا تحت وطأة الابتزاز الاقتصادي الرخيص، والتغيير في أنماط الحكم في كييف، عبر الانقلابات وتغيير النظام السياسي فيها. وهذا يجعل قضية أوكرانيا خارج أيِّ مداولات أو نقاش يُمكن أن يساوم عليها ترامب مع بوتين. وكذلك محاولاته تجيير مواقف أوروبا تحت عناوين التهديد الإيراني بالصواريخ البالستية بعد أن رفض الاتحاد الأوروبي باستثناء بسيط في الموقف الفرنسي لماكرون الانسياق وراء العقوبات الأميركية على طهران ومحاولته إيجاد البدائل النفطية لـ 3 مليون برميل يومياً من السُّوق العالمي، وهو ما يعني العَبَث في سوق الطاقة ودليل واضح على اختلاله في إقامة توازن في مقارباته مع القوى العالمية…
حالة انعدام التوازن هذه تلقَّفتها إيران للردِّ على جهود ترامب من بوابة الاقتصاد وتخفيف العقوبات عنها، ليُعلن علي أكبر ولايتي مستشار المرشد الأعلى عن الصفقة الروسية الإيرانية والتوجُّه اقتصادياً نحو الشرق، معقِّداً مهمَّة ترامب وجولته وطارحاً مروحة البدائل إذا ما أرادت أوروبا الالتحاق بالسياسات الأميركية ولم تصمُد بوجه ضغوطه..
لقاء ترامب وبوتين اليوم في هلسنكي يأتي على وقع الانشطار في علاقات الغرب الأوروبي مع الولايات المتحدة وسياساتها التسلُّطية وعنجهيتها التي بدأت تفقد هيبتها. فسوق الطاقة الروسي الى أوروبا يتعزَّز مجدداً بعيداً عن صُداع أوكرانيا التي يُريد رئيسها بيتر بوروشينكو إعادة شرائه الغاز الروسي وتوزيعه الى القارة العجوز متراجعاً ونادماً عمَّا اقترفته يداه. فهو تعزيزٌ عبر التعاون الألماني الروسي في خط السَّيل الشمالي 2، وكذلك خط سيل الغاز التركي الجنوبي الذي صار بديلاً عن خط بلغاريا التي لم تصمُد بسياسات استقلالية وسيادية أمام الضغوط الأميركية فتمَّ تحويله عنها، والعقوبات الترامبية لم تجدِ نفعاً على إيران التي صار لديها مروحة واسعة من البدائل والخيارات الاقتصادية، ولا يعتقد البعض أنَّ العلاقات الأميركية مع أوروبا ستعود الى سابق عهدها بعد موجة الاحتجاجات والكراهية والتظاهرات التي تنظَّمت بوجه ترامب وفي كلِّ أنحاء أوروبا…
إذن هي قمَّة البدء بالتنازلات والتسليم الأميركي بعجزه عن امتلاك أوراق الحلول في العالم كلياً، أو لنقُل جزئياً، فيبقى لترامب ملف حماية الكيان الصهيوني وصفقة القرن التي يتحضَّر لها ومعه بعض الرجعيات العربية… فهل سيتقدَّم العرب كرأس حربة في هذا المشروع بتسليمه وتصفية القضية الفلسطينية لقاء المواجهة مع إيران.. أم أنَّهم سينتهجون على ألأقل سياسة الحَرَد الأوروبي والتطلُّع إلى مصالحهم ومصالح شعوبهم وقضاياها..؟؟؟
أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية