الصين وأميركا.. استثمار التناقضات
سماهر الخطيب
ضرب التناقضات ببعضها البعض ينتج عنه مركب جديد يحويها جميعاً بحلة جديدة قد يتفوّق فيه أحد العناصر المكونة لهذا المركب أو ذاك على مكوناتها الأخرى.. وقد تنتج معادلة جديدة يتبدل فيها أطرافها إنما المهم الحصول على نتيجة تتوافق مع صانع القرار السياسي في اللعبة الدولية.
إن ما يقوم به صناع القرار الأميركي من استثمار للأحداث الدولية ببراغماتية واقعية وتصويب للقوة الدبلوماسية في أهداف تثار بوتقة بركانها بمشاكل «هجينة» مفتعلة فلم تعُد فقط تلك المشاكل الإنسانية فقط هي المسبب للتدخل الأميركي في مجريات الأحداث بحجة «التدخل الإنساني» ولم تعد القوة الصلبة تحت مظلة الأمم المتحدة هي الأسلوب المتداول في التعامل الأميركي مع ما يجري في بقاع الأرض خاصة تلك البؤر المشتعلة..
أسلوب «هجين» جديد طغى في الآونة الأخيرة كطريقة جديدة في إشعال «الحروب» وافتعال الأزمات لإدارتها بطريقة براغماتية تسعى من خلالها الإدارة الأميركية إلى إعادة فرز القوى العالمية من حولها لتعيدها إلى بوتقتها سعياً نحو استعادة «القطب» الواحد والتموضع على رأس «الهرم» بعدما صعدت قوى عالمية نحو درجات أعلى في العلاقات الدولية، كذلك أصبحت تملك من القرار السياسي والاقتصادي ما يوازي القرار الأميركي في بعض الأحيان. وهو ما دفع صناع القرار إلى التوجّه نحو ضرب التناقضات ببعضها سعياً منهم لإيجاد واقع جديد يتماشى مع المصالح القومية الأميركية.
وفي هذه المصالح تصبّ تلك «الحرب التجارية» التي شنتها الإدارة الأميركية ضدّ حلفائها قبل منافسيها الدوليين منذ إعلان فرض الرسوم الجمركية على واردات الصلب والألمنيوم إلى ما تبعها من إجراءات للمعاملة بالمثل وما تمخض عنها من قرارات أخرى بفرض المزيد من الرسوم المتبادلة بين أميركا وباقي الدول فيما جاء رد حلفاء واشنطن قبل خصومها صادماً، وبإجراءات تصاعدية قرعت طبول الحرب التجارية، ودخلت منعطفاً خطيراً مع توقيع أكبر اتفاق في العالم للتجارة الحرة جيفتا يحقق شراكة اقتصادية بين الاتحاد الأوروبي واليابان، ويهدف إلى خلق أكبر «منطقة اقتصادية مفتوحة في العالم»، تعادل السياسات التجارية للرئيس ترامب والتي أطلقها مؤخراً.
لكن صانع القرار الأميركي يعلم ما يريده من ذاك «الطبل» الذي قرعه، فحتى لو قامت الدول الأخرى بشراكات اقتصادية فمردودها سيكون بزيادة نمو التجارة العالمي بما يعني زيادة التعامل بالدولار الأميركي. تلك القوة التي تملكها أميركا من دون سواها، رغم الديون التي تعاني منها، ورغم التهديدات التي تصدح بها المنابر الدولية بالتعامل بالعملات الأخرى. إنما وإذا ما حدث ذلك فأول الخاسرين هي «الصين» على سبيل المثال، لكونها أكبر الدائنين لأميركا وبذلك ستفقد قيمة ذاك الدين الأميركي ولربما تصبح قيمته صفراً. وهو ما ينعكس إيجابياً على الولايات المتحدة..
أما في ما يخصّ سياستها المتناقضة مع دول «الناتو» و«الأوراسي»، فإن الواقعية الجديدة في العلاقات الدولية ليست لكل زمان ومكان أن «تصفع» بيد وتمد الأخرى للسلام، ربما أكثر واقعية في مجريات العالم اليوم حتى يتسنى لـ«الثعلب الماكر» تحصيل مبتغاه بأسلوب هجين من المكر والخداع السياسي للدفع نحو إعادة التموضع داخل الرقعة الدولية العالمية..
وفي ذاك الاستثمار «الهجين» نجد موجة الانفصال والدعم الأميركي لتلك الحركات مهما كانت، وإينما كانت على مبدأ قديم جديد «فرق تسد»، حيث تخشى من تنامي تلك القوى الدولية ومشاركتها في القرار الدولي، ما جعل تلك الورقة إحدى أوراق الاستثمار الأميركي في اللعبة الدولية وأحد أهدافها في ضرب التناقضات..
من جانب آخر، تسعى الصين، باستثمار التناقضات، ودخول الاتحاد الأوروبي بطريقة خفية وقيادتها بدلاً من الولايات المتحدة.. فتصاعد استثمار الولايات المتحدة للتناقضات الدولية، يقلق بشدة نخب العالم القديم.
فالقيادة الصينية، مع كل اعترافاتها بالحب لـ «التجارة الحرة»، تنتهج حمائية بعيدة الحدود فتوسعها الاقتصادي، وخططها لفتح طرق لـ»الدخول إلى أوروبا»، ونشاطها في شراء الشركات الأوروبية، يوضح أن الولايات المتحدة كانت غارقة في قضايا صغيرة لزمن طويل، وقد فاتتها أشياء أهمها «اللعبة الصينية».
في هذه الأثناء، يشعر صانع القرار الأميركي بقلق متزايد من «القوة الجديدة»، حيث تزامنت عودة الحمائية المباشرة والحازمة إلى الممارسة العالمية مع فرض أميركا إجراءات تقييدية على الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا في وقت واحد.. فكانت ثغرة خلصت بكين إلى ضرورة تعزيز نفوذها في «أوراسيا والاتحاد الأوروبي» وعلى عتباتهما.
وتمتلك الصين بمواردها المالية الضخمة، وسياستها التنموية، فرصة لاستغلال نقاط الضعف في «البيتين الأبيض والأوروبي»، عن طريق ملء الفراغ في هوامش فاقدة الأمل في التنمية عبر علاقات ثنائية، إن مع الدول الأوروبية وإن مع الولايات منفردة عبر شركاتها مستغلة «قانون» الولاية الأحادي..
وفيما يتم توازن القوى بين الصين والولايات المتحدة، يمكن لأوروبا وأوراسيا أن تحافظ على نفوذها ووزنها السياسي..
والآن، تقف الصين والولايات المتحدة عند «الباب الأوروبي النيوليرالي» وكذلك على عتبة التناقضات الدولية، سيكون من المنطقي إزالة جميع النزاعات الداخلية في الداخل الأوروبي، وكذلك الأوراسي بانتهاج خطط توحيد جديدة، وخلق ظروف في مواجهة ذاك الأسلوب الهجين الجديد..