النهج والمناهج عند سعاده I ـ النهج
د. حيدر الحاج اسماعيل
1 ـ نهج التأسيس:
الكلام على التأسيس من وجهة نظر المناهج يندرج في باب درس المبدأ المنهجي لسعاده وليس المنهج ذاته، وهو المبدأ الذي نسميه النهج الذي يفيد اتجاه الانطلاق من مركز محدد للانطلاق. على هذا الأساس أعتقد أن سعاده وضع نهجاً للتأسيس قائماً على فكرة مركزية واحدة ألا وهي فكرة الأمّة. معنى ذلك أن النهج قومي وقد استخدمه سعاده في كل مناقشة منطقية وفي كل منهج علمي أو فلسفي طبّقه.
وهناك أكثر من دليل لأكثر من وثيقة من مكتوبات سعاده على صحة دعوانا. الدليل الأول هو دستور الحزب ذاته. فيكفي أن نحلل المواد الأولى والثانية والثالثة من دستور الحزب التي هي مواد العقيدة، أي نظام الفكر والنهج، لنكتشف أنها، كلها، تدور حول فكرة الأمة، أو تنطلق منها. وهذا برهاننا:
فالمادة الأولى من الدستور تنص على غاية الحزب وهذا نصها:
«بعث نهضة سورية قومية اجتماعية تكفل تحقيق مبادئه وتعيد إلى الأمة السورية حيويتها وقوتها. وتنظيم حركة تؤدي إلى استقلال الأمة السورية استقلالاً تاماً وتثبيت سيادتها، وإقامة نظام جديد يؤمّن مصالحها ويرفع مستوى حياتها، والسعي لإنشاء جبهة عربية» 1 .
هذه المادة ـ الغاية يمكن أن تتخذ، بمقدار من التحليل قليل، الصورة التالية:
بعث نهضة في الأمة تكفل تحقيق مبادئ حزب الأمة وتعيد إلى الأمة حيوية الأمة وقوة الأمة وتنظيم حركة تؤدي إلى استقلال الأمة استقلالاً تاماً، وتثبيت سيادة الأمة وإقامة نظام جديد يؤمن مصالح الأمة ويرفع مستوى حياة الأمة والسعي لإنشاء جبهة عربية للأمة .
طبعاً قصد سعاده بالأمة، الأمة السورية؟
نلاحظ، إذاً، أن مقداراً قليلاً من التحليل يكشف لنا أن «الأمة» هي الفكرة المركزية في المادة الأولى للدستور التي تؤلف غاية الحزب. كل أفكار الغاية الأخرى، من فكرة الحيوية وفكرة القوة وفكرة الحركة المنظمة وفكرة الاستقلال والسيادة المثبتة وغيرها كلها ملتزم بفكرة الأمة أو دائر حولها.
إذاً فكرة «الأمة» هي الفكرة المركزية في الغاية. كذلك الحال إذا أجرينا مقداراً من التحليل للمادة الثانية التي تؤلف المبادئ الأساسية الثمانية والمادة الثالثة التي تشكل المبادئ الإصلاحية الخمسة، فإننا سنحصل على نفس النتيجة.
فالمبادئ الأساسية الثمانية يمكن تلخيصها على النحو الجوهري التالي 2 :
1 ـ «سورية للسوريين والسوريون أمة تامة» = سورية ملك عام للأمة.
2 ـ «القضية السورية هي قضية قومية قائمة بنفسها مستقلة كل الاستقلال عن أية قضية أخرى» = الاستقلال الحقوقي للأمة.
3 ـ «القضية السورية هي قضية الأمة السورية والوطن السوري» = الترابط الحيوي بين الأمة وملكية الأمة.
4 ـ «الأمة السورية هي وحدة الشعب السوري المتولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي» = المادة الاجتماعية للأمة.
5 ـ «الوطن السوري هو البيئة الطبيعية التي نشأت فيها الأمة السورية، وهي ذات حدود جغرافية تميزها عن سواها تمتد من جبال طوروس في الشمال الغربي وجبال البختياري في الشامل الشرقي إلى قناة السويس والبحر الأحمر في الجنوب شاملة شبه جزيرة سيناء وخليج العقبة، ومن البحر السوري في الغرب شاملة جزيرة قبرص إلى قوس الصحراء العربية والخليج العربي في الشرق. ويعبر عنها بلفظ عام: الهلال السوري الخصيب ونجمته جزيرة قبرص».
هذا المبدأ يساوي مما يساوي قولنا بتعيين الحدود الطبيعية لملكية الأمة.
6 ـ «الأمة السورية مجتمع واحد» = الهيئة الاجتماعية الواحدة للأمة.
7 ـ «تستمد النهضة السورية القومية الاجتماعية روحها من مواهب الأمة السورية وتاريخها الثقافي السياسي القومي» = الاستقلال الروحي لنهضة الأمة.
8 ـ «مصلحة سورية فوق كل مصلحة» = المقياس المناقبي للعاملين للأمة.
مرة ثانية نلاحظ أن المبادئ الأساسية تدول حول فكرة الأمة أيضاً.
لننتقل الآن إلى المبادئ الإصلاحية، فماذا نجد؟
والمبادئ الإصلاحية، كما قلنا، هي مضمون المادة الثالثة من الدستور، وهذه هي 3 :
1 ـ «فصل الدين عن الدولة» = علمانية دولة الأمة.
2 ـ «منع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء القوميين» = اختصاصية دولة الأمة.
3 ـ «إزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب» = نظام التساوي في الحقوق والواجبات في دولة الأمة.
4 ـ «إلغاء الإقطاع وتنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج وإنصاف العمل وصيانة مصلحة الأمة والدولة» = النظام الاقتصادي الإنتاجي العادل لدولة الأمة.
نلاحظ من جديد أن المبادئ الإصلاحية هي أيضاً تدور حول الأمة من حيث دولتها.
وهناك أدلة أخرى كثيرة مبثوثة في جميع كتابات سعاده.
أذكر على سبيل المثال قولاً قصيراً لسعاده يأتي فيه على ذكر الأمة خمس مرات. القول هو: «كل ما فينا هو من الأمة وكل ما فينا هو للأمة حتى الدماء التي تجري في عروقنا عينها ليست ملكنا بل هي وديعة للأمة فينا ومتى طلبتها الأمة وجدتها الأمة».
وأذكر قول سعاده: «إذا لم تكونوا أحراراً من أمة حرة فحريات الأمم عار عليكم».
وأذكر قول سعاده: «مما لا شك عندي فيه أن عظمة الحزب السوري القومي التي لا عظمة بعدها هي في إيجاد الوجدان القومي وإظهار شخصية أمة كانت مهملة وإيجاد أسس نهضة تحقيق وصول الأمة إلى مرتبة الحياة المثلى اللائقة» 4 .
ثم أذكر بعض ما قاله في خطابه في مناسبة الأول من آذار عام 1938 في منزل الرفيق المرحوم زكريا لبابيدي: «إن إنشاء المؤسسات ووضع التشريع هو أعظم أعمالي بعد تأسيس القضية القومية…» 5 معنى ذلك أن تأسيس القضية القومية أي قضية الأمة هو الأعظم من أعظم أعمال سعاده.
كل الأدلة التي ذكرناها يضاف إليها نشيد الحزب الرسمي الذي يدور حول فكرة الأمة:
«سورية لك السلام
سورية أنت الهدى
سورية لك السلام
سورية نحن الفدى» 6
تؤكد أن الفكرة المركزية عند سعاده هي فكرة الأمة. حتى في المناسبات الاجتماعية وفي اختتام أعضاء الحزب لرسائلهم يذكرون الأمة. مثلاً: في مناسبة الوفاة يخاطبون بعضهم بعضاً بالقول: «البقاء للأمة» وفي رسائلهم يذكرون عبارة: «لتحي سورية» حيث يقصدون بذلك الأمة السورية أو سورية الأمة بالإضافة إلى سورية الوطن.
الفائدة من كل ما تقدم منهجية، ومن وجهين:
الوجه الأول يختص بما يمكن تسميته بالمبدأ المنهجي للقراءة، إذ أني أعتقد أن فكرة الأمة هي المبدأ المنهجي لقراءة تفكير سعاده. والوجه الثاني يتعلق بقراءة سعاده قراءة صحيحة مستقيمة. فقد كان اعتقادي وما يزال أن قراءة سعادة لا تستقيم إلا في ضوء فكرة الأمة.
وقد كان سعاده يذكر فكرة الأمة ذكراً صريحاً في كتاباته وخطبه وإذا اتفق أنه لم يذكرها في مقطع من كتاب أو جزء من خطاب فلأنه لا بد أنه سيكون ذاكرها في القسم اللاحق أو كان ذاكرها في القسم السابق من كلامه.
على كل حال، إذا اجتزأ أحد قولاً لسعاده ولم يكن ذلك القول مشتملاً على فكرة الأمة صراحة فالمنهجية التي أشرنا إليها تقتضي أن ندخل فكرة الأمة في النصّ فيصبح النصّ نصاً قومياً اجتماعياً كما قصد سعاده، ونصبح نحن، في نفس الوقت، قوميين اجتماعيين في قراءتنا للنصّ.
مثلاً: في تعريف سعاده للنهضة، يقول سعاده؟ «النهضة، إذاً، هي الخروج من التفسخ والتضارب والشك إلى الوضوح والجلاء والثقة واليقين والإيمان والعمل بإرادة واضحة وعزيمة صادقة. هذا هو معنى النهضة لنا» 7 .
استناداً إلى المبدأ المنهجي للقراءة الذي شرحناه، يأخذ النص الصورة التالية، يصبح: النهضة، إذن، هي خروج الأمة من تفسخ الأمة وتضارب الأمة بعضها مع بعضها الآخر وشك الأمة بعضها ببعضها الآخر إلى وضوح الأمة في الشخصية وجلاء الأمة في الهُويّة وثقة الأمة بنفسها ويقين الأمة بقدرتها وإيمان الأمة بقضيتها وعمل الأمة بإرادة للأمة واضحة وعزيمة للأمة صادقة. هذا هو معنى النهضة القومية الاجتماعية لنا.
فكرة الأمة، وفقاً لما تقدم، هي المقدمة الأساسية التي يجب الانطلاق منها في كل المناهج التي استخدمها سعاده سواء أكانت مناهج استدلاليّة deduction أو استقرائية inducton أو تحليلية analysis أو دياليكتيكية dialectic أو غيرها.
بالنسبة لخصائص التفكير المنهجي عند سعاده نذكر الخاصتين التاليتين وهما: الاستقلالية والضرورة اللفظية. بالنسبة للاستقلالية أذكر تأكيد سعاده على فكرة الأمة السورية التامة الواردة في المبدأ الأساسي الأول، وفكرة القضية القومية القائمة بنفسها في المبدأ الأساسي الثاني، والفكرتان تعبران عن الاستقلال الحقوقي للأمة. ثم هناك فكرة الاستقلال الروحي لنهضة الأمة السورية المتضمنة في المبدأ الأساسي السابع الذي ينصّ على ما يلي: «تستمدّ النهضة السورية القومية الاجتماعية روحها من مواهب الأمة السورية وتاريخها الثقافي الاجتماعية روحها من مواهب الأمة السورية وتاريخها الثقافي السياسي القومي».
والمنحى الاستقلالي لتفكير سعاده المنهجي ظهر في كتاباته كلها. نذكر من ذلك تمييزه عروبة الأمة السورية الواقعية عن العروبة الوهمية للآخرين. ونذكر رفضه إنشاء أية علاقة إلا على أساس سيادة الأمة السورية على نفسها ووطنها وغير ذلك من الأمثلة كثير.
أما خاصة الضرورة اللفظية للعقيدة فأمثلتها عديدة: منها رفضه تسمية السوريين باللهللخصبيين نسبة إلى الهلال الخصيب في مقال مشهور حمل عنوان: «نحن سوريون لا هللخصبيون» 8 . ورفضه تسمية ـ حزبه بالحزب القومي الاشتراكي لأن الاجتماعية في فلسفته القومية الاجتماعية هي غير الاشتراكية ولأن حقيقة حزبه هي غير حقيقة الأحزاب النازية. وغير ذلك من الأمثلة كثير نذكر منها: رفض سعاده وصف النفسية السورية بالنفسية الشرقية على أساس أن الفرق بينهما شاسع، فالنفسية الشرقية نفسية ذات نزعة غيبية صوفية مهملة للوجود الماثل، في حين أن النفسية السورية تمتاز بالنزعة الوجودية الصراعية العملية التي ترمي إلى تحسين الحياة وتشريفها وتقدمها 9 .
الهوامش:
1 سلسلة النظام الجديد، الجزء 2، المحاضرات العشر، المحاضرة الأولى، ص 16.
2 أنطون سعاده، مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي وغايته.
3 المرجع السابق.
4 الآثار الكاملة، الجزء الثاني، ص 242.
5 كتاب سعاده في الأول من آذار، 1956، ص 48.
6 نشيد الحزب الرسمي.
7 سلسلة النظام الجديد، الجزء 2، كتاب المحاضرات العشر، المحاضرة الأولى، ص 16.
8 جريدة كل شيء عدد 100، 25 شباط 1949، وفي كتاب أعداء العرب… أعداء لبنان، ص 179 ـ 183.
9 أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 106.
من كتاب «المناهج عند سعاده والقراءات الخمس»