عشّي: اغتيل سعاده لأنه رفض قيامَ دولة يهودية على جزء من أراضي الأمة السورية كما وَعَد بلفور طالب: من طلب أمر التصفية كان يعلم أنه لا يمكن إجراء محاكمة قانونية صحيحة تصل بالنهاية الى إلغاء الزعيم بركات: محاكمة سعاده الصوَرية تحمل في طياتها لُبساً قانونياً ووصمة عارٍ على جبين القضاء والإنسانية
بدعوة من «مديرية الثقافة» التابعة لمنفذية طرابلس في الحزب السوري القومي الاجتماعي، أقيمت ندوة في مكتب المنفذية تحت عنوان «تموز… شهر الفداء»، حاضر فيها كلّ من عضو هيئة منح رتبة الأمانة الياس عشّي، والمحامي أحمد طالب، وأدارها وكيل عميد الإذاعة شادي بركات.
حضر الندوة العميد عبد الباسط عباس، منفذ عام طرابلس فادي الشامي وعدد من أعضاء الهيئة واعضاء المجلس القومي، سمير حسن ممثّلاً النائب الدكتور علي درويش، والشيخ علي حسن عن المجلس الإسلامي العلوي، منسّق عام لقاء الأحزاب والقوى الوطنية في طرابلس عبد الله خالد، وعدد من الفاعليات الطرابلسية وجمع من القوميين والمواطنين.
بركات
افتتحت الندوة بالنشيد الوطني اللبناني ونشيد الحزب السوري القومي الاجتماعي، وبعد الترحيب بالحضور، افتتح الندوة وكيل عميد الإذاعة شادي بركات قائلاً: ندوة اليوم في منفذية طرابلس، هذا المكان الأحبّ إلى قلبي، شاقّة. وأقولُ شاقة لسببين: الأول أن عنوان هذه الندوة هو «تمّوز… شهرُ الفداء»، ومناسبةُ الندوة هي استشهادُ زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعاده… هذه المناسبة التي تختزن في وجدان القوميين الاجتماعيين وأحرار العالم، بركاناً من الفداء لا ينضب، وفي وصفها تعجزُ قواميس اللغة العربية عن صوغ عباراتٍ تُعبّرُ بما يليقُ بهذه الملحمة التموزية بُكلّ ما تحملهُ من قيمٍ وأبعادٍ ونهجٍ سارت عليه أجيال وفاضت على دربه الدماء.
أما السببُ الثاني، أنني أجلسُ بين الأمين إلياس عشّي، الأديب والباحث والمناضل والمربّي والأستاذ الذي عرفهُ خرّيجو طرابلس الشام لأجيالٍ عدّة. وبين الرفيق أحمد طالب، المحامي البارز في أروقة قصر العدل، النقابي والناشط الحقوقي المدرك تفاصيل القانون وتشعبّاته.
نتحدّث اليوم عن الثامن من تموز بكُل أبعاده القومية والإنسانية والحقوقية. نتحدّث عن القيم ومفاهيم الصراع والمعرفة. هذه الحادثة التاريخية التي تُمثّلُ الصراع التاريخي بين الحق والباطل وبين الحياة والموت… هنا حيثُ لا مكان إلا للتطرف كما قال الشهيدُ الشاعر كمال خير بك «التطرفُ كل الحقيقة والاعتدالُ نصف الباطل»… لأنّ القيم لا تتجزأُ والحق لا يتجزأ. ودماء تموز النازفة عبر التاريخ لا تتجزأ.
لا شكّ في أن محاكمة سعاده الصوَرية تحملُ في طياتها لبساً قانونياً ووصمة عارٍ على جبين القضاء والإنسانية. هذه المحاكمة الصوَرية التي صدر فيها حكمٌ بالإعدام في أقل من أربعٍ وعشرين ساعةً. قال فيها سعاده: «محاكمتي اغتيالٌ سياسي»، لتُسجّل للتاريخ أن قضاءً في إحدى بقاع الأرض تحوّل من وسيلةٍ لإحقاق العدالة إلى وسيلةٍ للاغتيال السياسي. فكان الثامن من تموز، ويا خجل هذه الليلة من التاريخ!
يصف الأمين الياس عشي في نصّه «الأفق الجمالي في جرح تموز» أن الصراع بين الحُرّية والعبودية هو صراعٌ أبديٌّ لن يتوقف، وأن الذين يموتون من أجل قضيةٍ نبيلة هم وحدُهم الأحياء.
طالب
ثمّ تحدث المحامي أحمد طالب شارحاً ملابسات القضية وخلفياتها والفضائح القانونية، مقسّماً إياها خمسة اقسام: مرحلة ما قبل تسليم الزعيم ومن هو هذا الرجل العظيم/ تأسيس الحزب والغاية المبادئ. مرحلة التسليم المخالف للقواعد الدولية والمحلية أيضاً. مرحلة المحاكمة والمخالفات القانونية الواضحة والأكيدة. مرحلة تنفيذ قرار التصفية الإعدام الإلغاء. ما بعد إلغاء الزعيم. وخلاص.
المرحلة الأولى: قانونية المرحلة الأولى التأسيس، قانون 1909 الاحزاب . حق تأسيس الأحزاب وشرعية الانطلاق والقانونية الصحيحة. الانتشار القانوني والشرعي والشعبي للحزب. الاعتراف المحلي والدولي بالوجود القانوني للتنظيم.
المرحلة الثانية: فضيحة التسليم التي قدّمها حسني الزعيم هدية لرياض الصلح وتمّت بحضور الأمير فريد شهاب ونور الدين الرفاعي والعقيد الياس حسواني.
بعد الاجتماع السرّي في دمشق ليلاً تم تسليم الزعيم بعد الخيانة المعروفة من قبل حسني الزعيم. ولم تراعَ قواعد التسليم والمعاهدات الدولية، لا سيما الاتفاق كان مسبقاً على تصفية الزعيم بدليل محاولات قتله المتعدّدة على الطريق أثناء نقله من دمشق إلى بيروت تحت ذريعة محاولة الهرب أو التهريب ، لأن المدعو محسن البرازي طلب قتل الزعيم عند نقله وعلى طريق بين دمشق وبيروت.
المرحلة الثالثة: في تشكيل محكمة سريعة عسكرية وتبديل قيادتها وتكليف الملازم أحمد عرب بأن يكون في عداد هيئة المحكمة المشكلة بصورة مخالفة للقواعد القانونية وعدم مراعات الاصول القانونية وتحديداً المادة 233 قانون عفو . في خلوّ المحاكمة من محامي دفاع شخصيّ بعد انسحاب الوكيل المحامي إميل لحود بعد طلبه تأجيل الجلسة لمدة 24 ساعة ليتسنّى له الاطّلاع على الملف. في تكليف محامٍ عسكريّ الياس رزق الله وهو غير متخصّص بالامور القانونية إطلاقاً، ومحاولته تأجيل الجلسة بحجّة عدم الاهلية القانونية عند الزعيم الموضوع العقلي . عدم انطباق مواد الادّعاء على الفعل، وعدم توفّر أدلة سوى سائق الباص الذي قيل إنه كان يعلم بأن الزعيم سلّم سلاحاً للقوميين. لا وجود لمضبوطات تؤكد توفّر الفعل الجرمي لأن المضبوطات كانت باعتراف الجهات الامنية هي /35/ بارودة قديمة وذخائر فاسدة وقديمة أيضاً وأن اعتقالات القوميين على امتداد الوطن جاءت لتؤكد عدم حيازتهم السلاح. عدم التحقيق بمقتل الضابط توفيق شمعون في عاليه ولا وجود لأدلة تؤكد من قتله.
تصريح وإفادة الزعيم باحترامه الكيان اللبناني ومداخلاته ومرافعاته القانونية تؤكد صحة الأمر. في صحة الاستقالات لدى لجنة منح العفو القاضي إميل تيان والقاضي جورج سيوفي وزهدي يكن.
المرحلة الرابعة التصفية والإلغاء : في عدم صحة استعمال كلمة إعدام الزعيم لأن كلمة إعدام ينطوي عليها صحة إجراءات قانونية أو انها بحدّها الادنى راعت الشروط القانونية وهو الأمر غير المتوفر إطلاقاً على حالتنا المتعلقة بإلغاء الزعيم وتصفيته .
وبالفعل، أن استحالة تصفية الزعيم أثناء نقله بين دمشق وبيروت كانت مخرجاً دقيقاً للجهة صاحبة القرار بالتصفية، وبالفعل أن من طلب أمر التصفية كان يعلم أنه لا يمكن إجراء محاكمة قانونية صحيحة تصل بالنهاية الى إلغاء الزعيم لأن أي محاكمة ستكون مخالفة للأصول تماماً كما حصل لذلك كانت الرغبة بالتصفية على الطريق .
المرحلة الخامسة: ما بعد إلغاء الزعيم وتصفيته: انتشر الحزب بشكل أوسع. التفاف شعبي أكبر حول الحزب نتيجة تلك المحاكمة الظالمة ولمخالفة أبسط قواعد حقوق الإنسان. استدرك الحزب موضوع تنظيمه بشكل أدق في المراحل اللاحقة حتى تاريخ المحالوة الانقلابية 1961 1962.
الخلاصة: عدم شرعية المحاكمة وعدم قانونيتها لمخالفتها القانون والواقع والحقيقة ولمخالفتهم أبسط قواعد حقوق الدفاع وحقوق الإنسان.
عشّي
ثمّ تحدث الياس عشّي واضعاً مقاربة بين ثلاث حالات اغتيال عبر التاريخ لمفكّرين سمّاهم شهداء المعرفة، أحدهم أنطون سعاده، مقسّماً مداخلته إلى عشرة هوامش تحت عنوان «الأفق الجمالي في جرح تموز».
الهامش الأول: الكلمة الأولى حدث مفاجئ قد تأتي بعد ألف سنة، وقد لا تأتي أبداً ولكنها إذا أتت تكون حدثاً إبداعياً، لا فرق إن جاءتك في مقال، أو في كتاب، أو في قصيدة، أو في المواقف النبيلة حيث يصبح الموت شرطاً لانتصار ما تؤمن به، وما تسعى إليه، وما تراه صواباً في كيفية الخروج من الغريزة إلى العقل الذي هو، كما يقول سعاده «الشرع الأول عند الانسان».
حول هذا الهامش، ومن دون أن يتواعدوا، جاؤوا من أمكنة مختلفة، وكانوا ثلاثة: سقراط، وعبد الله بن المقفع، وأنطون سعاده، وجلسوا حول طاولة مستديرة لمناقشة أمر اغتيالهم.
الهامش الثاني: رأى سقراط أن الحكم عليه بالإعدام، في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد، جاء بعد تهمتين: الكفر، وإفساد الشبيبة. وهما تهمتان يتشاوف بهما سقراط لأن تعدّد الآلهة بدعة، ولأن الشبيبة تحلم بالخروج من مأزق السفسطائية. ويضيف: أنا أول من أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، كما قال عني شيشرون.
الهامش الثالث: ورأى عبد الله ابن المقفع أن الأمر بتصفيته، في منتصف القرن الثامن الميلادي، أصدره أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي الثاني، بعدما اتهمتُ بالزندقة.
والصحيح، يقول ابن المقفع، إن السبب الرئيسَ يعود إلى ترجمتي كتاب «كليلة ودمنة» من الفهلوية إلى العربية، وإضفاء الطابَعِ الإسلامي على نصوصه، وإلى الحِرَفية في صيغة كتاب العهد الذي قمت بنصّه ليوقّعه الخليفة المنصور أماناً لعبد الله بن علي عمّ الخليفة.
وختم ابن المقفع كلامه بالقول: لقد اختاروا السمً لتنفيذ حكم الإعدام لهذا العظيم سقراط، أما أنا فقد قطعوا أطرافي، ورموها في بئر، ثمّ ردموا البئر وأنا فيها حيّ!
الهامش الرابع: ورأى آنطون سعاده أن الأمر باغتياله، في منتصف القرن العشرين الميلادي، صدر من جهات إقليمية ودولية، ونفذته الحكومة اللبنانية بدم بارد، بعد أن اتّهمتُ بالتآمر على استقلال لبنان، وتدمير الهوية اللبنانية.
والصحيح، يقول أنطون سعاده، أن السبب يعود إلى محاربتي الشرسة اتفاقيةَ «سايكس ـ بيكو»، ورفضي المطلق قيامَ دولة يهودية على جزء من أراضي الأمة السورية كما وعد بلفور، وموقفي المطالب بمنع مرور أنابيب النفط لشركة تابلاين الأميركية ضمن الأراضي السورية، وسعيي لتأسيس مجتمع قومي مدني يفصل فيه الدين عن الدولة.
وإذا كان سقراط، يضيف سعاده، قد حوكم، ومنح فرصة الدفاع عن النفس، فإن الحكم باغتيالي صدر بعد محاكمة صورية، وتمّ تنفيذه بسرعة قياسية شبيهة بالمحاكم الميدانية، ومحاكم التفتيش.
الهامش الخامس: ثلاثة من شهداء المعرفة هم سقراط وابن المقفع وسعاده، عبر تاريخ كله كربلاء كما يقول نزار قبّاني. والملاحظ أن المسافة الزمنية بين سقراط وابن القفع هي ألف سنة ونيّف، وبين ابن المقفع وسعاده كذلك ألف سنة ونيّف. وهي ملاحظة يُستحق الوقوف عندها لأنها تؤكّد أن الصراع بين الحرّية والعبودية صراع أبدي لن يتوقف، وأنّ الذين يموتون من أجل قضية نبيلة هم وحدهم الأحياء.
الهامش السادس: عندما نتكلم عن الرثاء في أدبيات العرب نراه في عناوينَ أربعة: رثاء التفجع، ورثاء التأبين، ورثاء العزاء. وآخرها الرثاء الإنساني. ونحن القوميين لم نلتفت إلى أيّ منها، بل كانت لنا إبداعات أخرى صارت، فيما بعد، محطات نتوقف فيها كلما بزغ تموز بجرحه النازف المفتوح في الخاصرة. جرحٍ يحضنك بأوجاعه، ويرميك في قعر بكائيات غاضبة وعاصية.. جرح يحمل إليك كل صباح زوّادة خاوية من رغيف الخبز الساخن، وحبّة البركة، ورائحة القهوة، وشهقة عصفور يقاسمك خيوط الفجر.
وأيّ فجر ينتظرنا على قارعة «ذلك الليل الطويل» و«هتاف الجراح» اللذين قرأناهما حتى الثمالة، وتهجينا حروفهما، مرافقين محمد يوسف حمود في عرسه الجنائزي؟
بل أيّ فجر سيحمل الفرح وكمال خير بك ما زال على رصيف بيروت مهدور الدم، وما زال يردّد:
«اليومَ أرجِعُ والأجراسُ ساهرةٌ
بين المقابر، والأنقاض، والخُرَبِ
أعودُ نحوكمُ من بعدِ ما عبرَتْ
قوافلُ الحزنِ، والآلام، والغضبِ
وبين فجر وآخر يطلّ سعيد تقيّ الدين بهامته وسطوع جبينه، وإلى يمينه كاهن عرّف سعاده في زنزانته، ومشى معه إلى عمود الموت لينقل، في ما بعد، محاضرته الحادية عشرة التي تروي قصة رجل رفض أن يحني قامته، ورفض أن يقول نعم، فانتهى شهيداً فوق رمال بيروت.
الهامش السابع: المكان: مدينة اللاذقية… والزمان: التاسع من تمّوز من عام ألف وتسعمئة وتسعة وأربعين. وأنا في العاشرة من عمري.
أحاول أن أركّب المشهد لتلك المدينة المسحورة باللون الأزرق الذي يتماهى ويتمدّد، إلى أن تحضنه طرابلس وبيروت وقرطاجة، مرحّبين بالنوارس المرافقة له.
أحاول أن أتلمس، بعد كل هذا العمر الطويل، عشق المدينة التي علمتني كيف أحب، وكيف أرسم بالكلمات شكل أترابي، وشكل الأزقة، وشكل الأشجار وشقائق النعمان، وشكل الحزن.
أنا في العاشرة من عمري.. أبحث عن تفسير لما حدث في صباح الثامن من تموز، أحاول أن أفهم الهمسات الهاربة من بيت إلى بيت، ومن حارة إلى حارة. أحاول أن أفهم كيف صارت الهمسات صراخاً، وقبضاتٍ مشدودةً، وتقلصاً في الوجه، ووجعاً في العينين.
أحاول.. لكن الألفاظ والعبارات كانت أكبر بكثير من صبيّ لم يتجاوز العاشرة، ولكنها دخلت ذاكرتي، وتماهت مع اللون الأزرق، وفقش الموج، والنوارس، وكل الرموز الجميلة التي أكلت من رؤوس أصابعي، وما زالت!
إنها ألفاظ من نوع آخر:
ـ اغتالوا أنطون سعاده.
ـ حكموا على الزعيم ولم يحاكموه.
ـ اعتقلوا أنطون سعاده، وقاموا بتصفيته بعد ساعات.
ـ تخلّصوا من الزعيم.
ـ مات سعاده، وأمّا حزبه فباقٍ.
الهامش الثامن: في هذا اليوم الصيفي الحزين، داهمتني زرقة البحر، واغتصبت طفولتي!
من هو هذا الرجل الذي يُقتل من دون محاكمة؟
لِمَ قتلوه؟
ماذا فعل؟
ولَمْ ألقَ جواباً.
في هذا اليوم التمّوزي من عام ألف وتسعمئة وتسعة وأربعين، كبرت عشر سنين، وتعرّفت إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، من دون أن أعرف منه إلا اسم المؤسّسة، واسم المؤسّس الذي اغتيل على رمال بيروت.
يومذاك بدأت ولادتي الجديدة، ويومها بدأت أرسم حدود الشواطئ المنسحبة من اللاذقية إلى بيروت، فأكتشف عري الاثنين، والمأزق الذي تعيشه ذاكرة البحر.
الهامش التاسع: في صباح التاسع من تموز، وللمرّة الأولى، أشرقت شمس اللاذقية بخفر، وألقت على الهضاب المتوجة بالأخضر برقعاً أسود. ويومذاك لم تخرج النوارس لتقوم برحلتها الصباحية، ولم تبترد الأشجار بمياه البحر. كل شيء بدا حزيناً… حزيناً… حزيناً حتى الموت.
ووحدي أكتشف أن في زاوية مني يولد ضوء، وتولد كلمات، ويولد إيمان برجل أعاد الحضور لأمة كادت أن تضيع.
الهامش العاشر: منذ ذلك الحين استقرّ أنطون سعاده فيّ، لم يفارق أصابعي مرة واحدة.. كان وراء كل ما كتبته، وما قلته.. اخترت الاختباء تحت عباءته، لأننا «إن كنا أقوياء سار بنا إلى النصر».
أخيراً، في جعبتي حكاية تقول: «كان يوجد ملك أعرجُ، ويرى بعين واحدة. وفي أحد الأيام دعا هذا الملك فنانين ليرسموا له صورته، بشرط ألا تظهر عيوبه في هذه الصورة! اعتذر كل الفنانين، باستثناء فنان واحد تقدّم ورسم صورة جميلة خالية من العيبين !
كيف؟ تخيّل الملكَ واقفاً وممسكاً ببندقية صيد موجهةٍ إلى هدف ما، مغمضاً إحدى عينيه، وحانياً قدمَه العرجاء. وهكذا رسم صورة للملك بلا عيوب!».
وبغضّ النظر عن الأهمية الفنية لهذه الرواية، فإن خطرها يصبح كارثياً إذا كان الهدف الرئيس منها تجاوزَ العيوب والأخطاء في مؤسسة ما، أو في متحدّ ما، أو في مجتمع بكامله، وأن نكون شهود زور لا سيما عندما نبتلع تاريخ الأمة السورية المكتوب بحبر الآخرين، أو عندما نسكت عن مشاهد البؤس والجهل والخيانة وقد صاروا علامات فارقة في مجتمع ننتمي إليه، ونؤتمن عليه.
وفي ذكرى الفداء نعود إلى سعاده الذي رفض أن يلعب دور الرسام المخادع، فكان سؤاله الأول: «ما الذي جلب هذا الويل لأمتي؟». وكان سؤاله الثاني: «من نحن؟»
وفي غمرة العمل على وضع الإجابات الصحيحة لإنقاذ أمته، كمنوا له، واغتالوه قبل أن تشرق شمس الثامن من تموز، ويرى العالم عريهم.