«التكليف المفتوح»: مشروع أزمة وطنية عميقة

د. وفيق إبراهيم

للمرة الأولى تتصاعد اعتراضات جدية على «دستور الطائف» لعجزه عن الإحاطة بمجمل الاحتمالات المنبثقة من تفاعلات السلطة وسبل تركيب مؤسساتها.

واحدة من هذه الثُّغَر الكبيرة في هذا الدستور بدأت حالياً بإظهار مدى خطورتها على الاستقرار الوطني. بما يضعها في خانة «الأخطار الوطنية القاتلة»، لذلك تتطلب معالجة دستورية سريعة لتحاشي الانزلاق نحو هاوية، تسعى أطراف داخلية وخارجية إلى دفع لبنان لقعرها الملتهب.

ملخّص هذه الأزمة هو أن دستور الطائف لم يحدّد مدة قصوى يحقّ لرئيس الحكومة المكلّف أن يستهلكها في تشكيل حكومته الجديدة، على أن يتقدم باعتذار بعد استنفادها لتجري إعادة تكليفه أو تكليف شخصيات أخرى وفاقاً لنتائج استشارات الرئيس..

بغياب هذا النص الدستوري المفترض، وعدم استعماله حتى في الأعراف والمواثيق.. يجد لبنان نفسه أمام أزمة عميقة تبتدئ بالتساؤل عن طريقة «إخفاء» هذه «الثغرة» عن مناقشات الطائف. وهي بمثل هذه الأهمية البنيوية في عمليات بناء السلطات السياسية في لبنان.

فمن دونها، يستطيع أي رئيس مكلف أن يفرض التشكيلات الحكومية التي تعطيه أحجاماً قوية وتناسب هيمنته عليها، وإلا فإنه يمتنع عن الموافقة على أي تشكيلات حكومية أخرى ليس له فيها الغلبة.. ويعتكف مدعياً مواصلة البحث عن مخارج وحلول في مدة مفتوحة قد تطول سنين وأكثر في غياب النواهي الدستورية أو محددات المدة الصريحة.

فهل لم ينتبه المتحاورون اللبنانيون في مؤتمر الطائف لها، أم انها قررت في ليل بهيم، أو أخذ بعض المحاورين حصصاً لهم في أمكنة أخرى كجاري العادة في لبنان، حيث يتبادل سياسيوه المصالح بين صفقة اقتصادية وتمريرات دستورية تستولي على بلد بكامله… ومسألة التكليف المفتوح منها.. فهناك مَن اشترى وهناك بالطبع مَن باع في بلد طوائفي ومذهبي وطبقي يعمل في خدمة الطرفين «الإقليمي العربي» والدولي.

وأهمية هذه النقطة أنها تفتح على أحد احتمالين: استعمال التكليف المفتوح أو التلويح به لتمرير تشكيلة موالية لسعد الحريري وبالتالي للحلف السعودي الأميركي الذي يواليه. هذا الحلف الذي ينسق مع «إسرائيل».. وهذا لا يعتبر اتهاماً للحريري لأنه يتعامل مع الفريق الأساسي فقط أي الحلف الأميركي السعودي الإماراتي. اما في حالة رفض الرئيس عون للتشكيلات فبإمكان الحريري من دون أي مانع دستوري أو عرفي أن يتجوّل في قصره، منتظراً استسلام الآخر المناوئ له سياسياً، أو أن ينظم جولات في أوروبا والشرق الأقصى لمزيد من «البرونزاج» و»الراحة» وإدارة «أعماله» أو ترقب فرصة راحة لولي العهد السعودي محمد بن سلمان يستطيع خلالها أن يستقبله من دون امتعاض او توتر.

ضمن هذين المشهدين، يقبع لبنان حالياً، ولا ثالث لهما إلا بإيعاز سعودي أميركي.. لكن استهداف الإعلامَيْن الخليجي والغربي لحزب الله بكل أنواع التهم، لا يشي بحلول مقبلة للأزمة الحكومية في لبنان، بقدر ما يظهر رغبة بتدمير عناصر القوة العربية والإقليمية لهذا الحزب على المستويين العسكري والأيديولوجي.

الخيار الثاني هو الاعتكاف.. وهذا مفتوح على احتمال انهيارات اقتصادية لا تستطيع حكومة تصريف الأعمال معالجتها لغياب الصلاحيات على إرغام الرئيس المكلف على الاستقالة في حالة عجزه عن التشكيل لغياب النص الدستوري الواضح والممارسة العرفية التاريخية.

هناك أيضاً خيار ثالث، لكنّه لا يعدو كونه افتراضياً لحاجته إلى الموافقات الخارجية. ويتعلق هذا الحل بحكومة جديدة على أساس التسوية فتذهب نحو تشكيلة تكنوقراط، أو باتجاه حكومة لا تتمثل فيها القوى السياسية بأحجامها الفعلية.

لا تستطيع حكومة التكنوقراط التعامل مع الأخطار الخارجية المحدقة بالبلاد. وليس حتمياً نجاحها في تقليص الانهيار الاقتصادي الداخلي من دون موافقة القوى السياسية الأساسية.. والإقليم أيضاً.

وذلك لارتباط «الداخلي» بـ»الخارجي» في لبنان كما أن للاعتكاف مخاطره، لأنه قد يؤدي إلى تفاقم الفوضى والانهيار الاقتصادي وتفجر الوضع السياسي الداخلي لإعطاء «إسرائيل» ذريعة لشنّ حرب خاطفة أو دعم قوى داخلية، كما فعلت في مرحلة السبعينيات والثمانينيات.

هل يمكن إذاً استيلاد حكومة تسوية لا أحد يملك فيها قوى سياسية أساسية أو معطلة؟

هذه أيضاً لا تمر، لأنها لا تجسّد طموحات الإقليم في كسر حزب الله.

لبنان إذاً، في أزمة سببها هذه الثغرة الدستورية القاتلة إذا أسيء استعمالها. وهذا ما يحصل.. وليس ضرورياً حتى لو لم تستعمَل الآن.. الإبقاء عليها لأنها تمثل خللاً في موازنات القوى الرئاسية في لبنان. فمجرد وجودها في صلاحيات رئيس حكومة مكلّف تعني سيطرته على تشكيل الحكومة. والمعروف أن مجلس الوزراء مجتمعاً هو السلطة التنفيذية الفعلية في لبنان، من دون شريك بما يعزل رئيس الجمهورية بشكل كامل ويحوّله مجرد «ملكة لإنكلترة» المحافظة على التراث فقط.

وينسحب هذا التسلط على المجلس النيابي أيضاً، بما هو قوة غير متحالفة، بل يمثل القوى السياسية بمختلف تنوّعاتها.. وهذا يعني عجزه عن مجابهة حكومة التشكيل المفتوح، وبذلك تصبح مؤسسات السلطة الجمهورية والتشريعية عاطلة عن العمل باحتكارها من سعد الحريري وشركاه في الداخل والخارج.

ما العمل إذاً؟

الحل في تشكيل سريع للحكومة تحت ضغطين: موازنات القوى النيابية الجديدة، وهي لمصلحة تحالفات حزب الله مع الأحزاب الوطنية والقومية وحركة أمل وقوى مارونية وسنية ودرزية إلى جانب التيار الوطني الحر.. أما الضغط الثاني فهو نقابي، حزبي، اجتماعي يعلن كامل الاستعداد لغزو الشارع في سبيل منع انهيار الوطن.

أما الحركة الوطنية الثانية فهي الدفع نحو مؤتمر وطني لمعالجة الخلل الدستوري ووضع محددات زمنية صارمة لعمليات تشكيل الحكومة. وهذا يفترض أيضاً حق الرئيس المكلف بعرض أي تشكيلة يختارها، لأن تكليفه مبني أساساً على تأييد غالبية نيابية. فإذا وافق عليها مجلس النواب تصبح حكومة، وإذا رفضها، يحاول الرئيس المكلف تشكيل أخرى وأخرى إلى ان تنتهي المدة القصوى فيرحل. وتتم العودة إلى استشارات جديدة ملزمة لتشكيل حكومة جديدة في إطار ديمقراطية بناء مؤسسات السلطة.

هذا هو الحل الوحيد الذي يُعيد التوزان إلى العلاقات بين مجلس الوزراء ورئيس الجمهورية، دافعاً البلاد نحو استقرار أمني واقتصادي وسياسي يبدو أننا أكثر حاجة إليه من أي زمن آخر.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى