«عبء رجل قنوع» لمرتضى الأمين… التحوّل بالحكاية العادية البسيطة إلى رواية إنسانية
د.عبد المجيد زراقط
«عبء رجل قنوع» رواية لمرتضى الأمين، صدرت مؤخراً عن «دار الحرف العربي». تقدِّم هذه الرواية معرفة روائية بعبء رجل قنوع، والعبء هو الحمل الثقيل الذي ينوء به حامله، والرجل القنوع هو الرجل الذي يقبل واقعه كما هو، فيكون ٱلقَبُول الارتهان لشروط الواقع المكوِّن الأساس لهويَّته.
تفيد الرواية أن هذا الرَّجل، كما جاء على لسانه وألسنة عارفيه، على سبيل المثال: يجد عبئاً في العثور على موضوع للحديث مع رجل آخر ص12 أمضى ثلاث سنوات في المدينة من دون أن يعرف اسم النهر الذي يعبرها، وكل ما يعرفه عنها مطاعمها الرخيصة ودور السينما فيها ص17 ، ويكتفي من الأشياء بما تمنحه إياه اللحظة الأولى ص36 . يقبل بالحياة التي وصل إليها 46 برودته مطلقة في مواجهة الحياة، لا مبالاته ص53 ، يكره أن يكون في دائرة الاهتمام ص87 «رضي بهذا المكان، لأن لا طاقة له على اختيار مكان أفضل» ص118 .
هذا الرجل الذي يرضى يقنع بما هو عليه، لا يحمل أيَّ عبءٍ، لأنه لا يسعى إلى تحقيق هدف، وإنما يقنع بما أُعطي له، وإذ نتبيَّن هذا تتشكل أمامنا مفارقة مفادها عبء رجل لا يحمل أيَّ عبء، ما يثير أسئلة منها: كيف تأتَّى ذلك؟ وما هو هذا العبء الطارىء الذي غيَّر مجرى حياة هذا الرَّجل، وهويَّته؟ وكيف تعامل معه؟
نعود إلى الرواية لنحاول الإجابة عن هذه الأسئلة. الحكاية، في هذه الرواية، أي المادَّة الروائية الوقائعية، أو المتن الروائي، مفادها أنَّ هذا الرجل أمضى ثلاث سنوات في كييف ليتابع دراسته، وفي هذه المدَّة عرف فتاتين هما إيرا وأولغا، وإذ تعرفت الأولى الغانية إلى الثانية الفتاة الصغيرة، أخلت لها رُجُلَها، وعندما أراد هذا الرجوع إلى بلاده، أبلغ صديقته بذلك، وبأنه سيتزوج، وبعد أن عاد تزوج وأنجب فتاتين.
وذات يوم، اقترح على زوجته أن يسافر إلى كييف ليرتاحا من التَّعب الذي ألحقته مهنتهما بروحيهما، فهما بحاجة، كما قال: «إلى الابتعاد الفعلي عن أثقال هذه العلاقات الجميلة» ص50 . توافق زوجته، ويسافران، ويبدو واضحاً أن لكلٍّ منهما هدفه من هذه الرحلة، فهي تريد التعرُّف إلى المدينة وإلى الفتاة التي استطاعت العيش مع زوجها بسعادة أسهب في وصفها لها، وهو يريد العودة إلى ماضيه، إلى فتاتيه اللتين كانت زوجته تعرف أنَّهما سبب «كل هذا الشوق واللهفة» اللذين يمتلكانه، ويدفعانه إلى بذل جهد لإقناع زوجته بالسَّفر ص51 .
نتوقَّف هنا لنتبيَّن أن هذا الرجل يريد أن يرتاح من تعب الحاضر وأثقاله، ليعود إلى سعادة الماضي، ويسعى إلى تحقيق ذلك بـ«كل هذا الشوق واللهفة»، ما يثير سؤالاً مفاده هو: هل يتمثل عبء هذا الرجل في تعب الحاضر وأثقاله؟ وإذ يبدو الجواب واضحاً: أي نعم، نسأل: هل تمثِّل العودة إلى الماضي/ السعادة التخلُّص من هذا العبء؟ ونجيب بنعم، وما يؤكِّد هذه الإجابة نهاية الحكاية، وتأتي كما يلي: يسافر الزوجان، وإذ تحقق الزوجة هدفها السِّياحي، من دون أن نتعرَّف إلى الفتاتين، لأنه لم يعثر عليهما تعود، ويبقى هو يبحث عن فتاتيه. يلتقي أولغا، وتدله على إيرا التي كانت تعالج من مرض السرطان في إحدى المستشفيات، وإذ يراها، ويصغي إلى الفتاتين وهما تستعيدان ماضياً كان جزءاً منه… يفكِّر بأن الأيام التي بقيت من إجازته تبدو تمهيداً لعقاب يستحقّه، هي ثلاثة أيام أخرى من عذابات مماثلة… ص158 .
وهكذا يتكثَّف العبء، فالخروج من أثقال الحاضر أفضى إلى عذابات الحاضر الذي آل إليه ذلك الماضي الذي كان يسعى إليه بكل الشوق واللهفة، ويعدّ تركه لأولغا حماقة ارتكبها، وهكذا يتبدَّى لنا قدر إنساني لم يستطع هذا الرجل، مع أنَّه «قنوع» أن يتصالح معه، ما نبّهه «إلى قدرة المرأة على التصالح مع قدرها. إلى قدرات أمهاتنا على تحمُّل رجالهن الذين هم آباؤنا، وعلى القوَّة التي تختزنها كل زوجة لتقبل بالحياة في منزل يُقْفَل بابه، في كلِّ مساء عليها، مع غريب لا تعرف عنه شيئاً، سوى أنها أحبّته بغباء، ذات يوم مضى» 158 .
ما ينبغي قوله هنا إنَّ الزَّوج الذي أحبته الزوجة ليس بغريب، وليس الحبُّ بغباء، ولعلّه القوَّة التي تجعل الإنسان يتحمَّل قدره، ويتصالح معه، وهذا يقودنا إلى التساؤل: هل تروي هذه الرواية قصّة من قصص تعامل الإنسان مع قدره؟ وهل يمكن أن نعكس الأمر فنتساءل عن قدرة الزَّوج على تحمَّل غريبة في منزل يقفل بابه عليهما كل مساء؟ وهل هذا هو عبء حفَّز الرحلة إلى الماضي، فأضاف هذا عبئاً آخر؟
يبدو واضحاً أن الإجابة هي نعم، والمأساوي في حياة الإنسان هو أن الرجل القنوع، الذي يشكل القبول المكون الأساس لهويته، ينوء بعبء أثقال واقعه، فيهرب إلى ما حسبه سعادة ماضيه، فيلقى العقاب، والعذابات…، وتشبه زيارته لإيرا عودته إلى هذه البلاد، كما يقول، فكان كأنه ينبش قبراً بلا هدف، غير لذَّة العبث بالقبر وما يحتويه ص157 ، ولهذا كانت تبدو لعينيه، منذ ما قبل ذلك، «مثل حماقة غير مدروسة» ص109
إن تكن هذه الحكاية، فكيف تمَّت كتابتها رواية؟
الواقع أن الروائي، عندما يكتب رواية، يأخذ حكايتها/ مادتها من الحياة، لكنه لا يكتب الحكاية نفسها، وإنما يكتب انزياحها الذي يحدثه منظوره، أو إدراكه الأدبي/ الروائي للعالم، فيقدم بنية متخيلة، أو انزياحاً روائياً كما هو الانزياح/ المجاز في الشعر.
يعبِّر الراوي، في هذه الرواية، عن هذه الحقيقة، فيقول: «… كنت آمل أنني سأتمكن من الالتزام بما تمليه عليّ ذاكرتي، مع الحفاظ على حريتي المقدسة، ككاتب، في التلاعب…» ص21 . هذا التلاعب الروائي هو الذي ينشىء مبنى روائياً يصدر عن الحكاية/ المرجع ويغايرها في آن، ويرى إلى عالمها وينطق برؤية إليه.
والآن، نعود إلى السؤال: كيف أقام الروائي من الحكاية نصّاً روائيّاً؟
تتخذ الرواية بنية نصِّيَّة مقسَّمة إلى مقاطع مرقَّمة، يتحكَّم الراوي بمسار الانتقال من مقطع إلى آخر، ويكون الانتقال، في حالات خطيّاً، وفي حالاتٍ أخرى مرتدَّاً إلى الماضي، ما يشكل بنية روائية يتكسر فيها الزَّمن، ويتعدَّد فيها المنظور الروائي، إذ يوكل القصُّ في الغالب إلى الراوي/ الشخصية: الرجل وفي حالات إلى زوجته وإلى فتاتيه. وفي ما يأتي نحاول أن نتتبع تشكُّل هذه البنية الرِّوائية.
تبدأ الرواية بمشهد يمثل وقوف الرجل أمام بناءين متشابهين في محاولة للعثور على امرأة كان يعرفها. ما يعني أنَّ المبنى الروائي يبدأ في زمن العودة إلى كييف للبحث عن الفتاتين. ثم يتم الاسترجاع بإرادة الراوي إلى الزمن الذي كان يعرف هذه الفتاة فيه، ولا يلبث الروائي أن يتدخَّل، ويقصي الراوي، فيستشهد بتشيكوف، ويقول: كنت أريد أن أصف جلوسها، ويفطن إلى أن بداية روايته كان خاطئاً إذ كان ينبغي أن يصارح القارىء بأن عودته إلى هذه البلاد كان من أجل رؤية إيرا وأولغا، ثم يتحدَّث عن تجربة الكتابة، ويتنحَّى، فيعود الراوي ليُكمل السرد.
هنا ينبغي أن نذكِّر بالفرق بين الروائي والراوي، فالراوي هو مكوِّن/ عنصر من عناصر القصِّ يوكل إليه الرِّوائي أداء القصّ، فهو ليس الروائي وإنما أداة بثَّه القصَّ، ويلجأ إليه ليوهم بصدقية ما يروي وموضوعيته.
وعندما يتدخَّل يقيم علاقة مباشرة مع القارىء، كأنه يريد أن يشركه معه في إقامة البنية الروائية، أو يوضح له ما يقوم به، غير أن إطالة التدخّل تبعث على نفور القارىء، وجعله يقول: أنا أقرأ رواية، وليس بحثاً، أو تنظيراً.
يعود الروائي إلى تدخُّله، فينظِّر في وجهي الحياة، فيقول: «لكل حدث في حياتنا وجهان، أو لعل من الأصوب القول: إن لحياتنا نسخة احتياطية…» ص22 . ويعلن أنه استفاد في هذا الشأن من رواية لروائي إيراني. ويقدِّم قصَّته مع إيرا شاهداً على ذلك ص23 .
وهذا يحوِّل القصَّة إلى شاهد يثبت صحة تنظير وما يعزِّز هذا التحول تقديمه شاهداً آخر يوصل إلى الاستنتاج نفسه، ثم يعود إلى مواصلة السرد فالتنظير، والتحليل، وبيان ما تفيده النسخة الاحتياطية ص30 .
ويتكرر هذا التدخل من غير موضع انظر: ص78 و79 و82 و104 على سبيل المثال .
ولا يلبث أن يعود إلى السَّرد، وتحدث نقلة. فيسترجع مجيئه هو وزوجته إلى تلك البلاد، ويحلل ما يحدث، فيتحدَّث عما يعنيه ذلك في النسخة الاحتياطية، ص36 ، ثم يواصل السرد ويضيف ما جاء في النسخة الاحتياطية ص43 ، ويواصل السرد، وتحدث نقله، فيسترجع إغراءه زوجته بالسفر، وموافقتها وسفرهما، ويتنحى لتروي زوجته ما حدث من منظورها، وتحدث نقلة، فيروي أحداثاً من علاقته بإيرا…
يستمر هذا المسار من التشكُّل إلى أن تسافر زوجته، ويتصل بأولغا، وتدلّه على مكان وجود إيرا… فتتشكل بنية روائية يتكسَّر فيها الزمن، وتتداخل الأزمنة: الحاضر، الماضي البعيد، الماضي القريب، ويتعدَّد الرُّواة، ويتدخَّل الروائي.
تتشكل البنية لتكون قصَّة من قصص عبء القدر الإنساني، لم يتمكن فيها رجل قنوع من التصالح مع زمنه، فخرج من أثقال حاضره إلى ما ظنه سعادة ماضيه، فإذا به يشعر بأنه ينبش قبراً ويعبث به وبما يحتويه، وإذ سمَّى هذا لذَّةً، فأي لذَّة هي هذه اللَّذة التي تكاد تكون شعوراً بالمأساة يذكِّر بذلك المشهد الذي رسمه شكسبير، في إحدى مسرحياته، السكِّير يلهو، وهو يشرب الخمرة من كأس هي جمجمة إنسان نبشها من قبره.
يُؤدَّى السَّرد بلغة رشيقة، قصيرة الجمل، بسيطة التركيب متينته في آن، ولا تخلو من شعرية الأسلوب في كثير من الحالات، ومن نماذج ذلك نذكر، على سبيل المثال: إنه، أي السرير، «يشبه حقلاً محروثاً» ص14 ، «سحبت الغطاء عن صديقتها التي راحت تشخر مثل عجوز تخلَّص من كلِّ أسنانه» ص15 . «وبذلت جهوداً أضنتني لأتذكَّر اسم الشارع، فكأنني كنت أحاول أن أستخرج، مغمض العينين، جورباً أسود من كومة من الجوارب الملوَّنة» ص40 .
«إن الثقة التي سارت بها أمامي هي، في أحد الأشكال، نوع من الانتقام، انتقام أنثى ممَّن هجرها» ص78 .
«فمشينا صامتين ومتجاورين إلى محطة المترو، وكان كل واحد منَّا يحسب أنه يجرُّ كلباً إلى جواره» ص111 .
نلمس، هنا، إدراكاً شعرياً لأشياء العالم يتمثل لغة شعرية تشع بالدلالات في هذه العبارات.
ويمكن، في الختام القول: إن مرتضى الأمين، في روايته هذه، يواصل تطوير أدواته، ويتحوَّل بالحكاية العادية البسيطة إلى رواية إنسانية ترى إلى أهم قضية من قضايا الإنسان في أي زمان ومكان كان، وهي قضيَّة معاناة تحمَّل عيش القدر الإنساني. أو تحمَّل العيش من دون عسلٍ محلٍّ له، كما نقرأ في إحدى حكايات كليلة ودمنة حكاية الرَّجل الذي كان يلعق العسل فوق هاويةٍ تفتحُ فيها أفعيان شدقيهما لابتلاعه بعد أن ينقطع الخيط الذي يتعلقُ به…
هذا هو القدر الإنساني/ العبء الذي يحتاج فيه الإنسان إلى عسلٍ محلٍّ يجعله قادراً على تحمُّل العيش، حتى وإن كان إنساناً قنوعاً.