كركوك… «قدس الأكراد»

نظام مارديني

كلما غابت كركوك عن واجهة الأحداث الكبيرة، عادت من جديد لتطفو على سطح البحر الهائج من المكونات التي تشكل نسيج العراق.

ففي تطور لافت في كركوك، أمهل محتجون كرد السكان العرب في منطقة القضاء التابعة للمحافظة 48 ساعة لإخلائها. جاء ذلك بعدما أحرق المحتجون مبنى قائمقامية الدبس والمحكمة في القضاء ورفض إخلاء المباني الحكومية قبل تحقيق مطالبهم، وأبرزها خروج العرب من سكان القضاء بعد عام 2003، وتولي البشمركة الكردية إدارة الملف الأمني في المدينة، واستبدال الإدارة المحلية في منطقة القضاء وخروج القوات العراقية منها. كما طالبوا بتشكيل قوات البشمركة جداراً أمنياً حول المنطقة.

هذا التطور كان قد سبقه تطور آخر بعد مقتل صحافي على يد ضابط من الحرس الجمهوري، تبين لاحقاً أن الضابط من المكون الكردي، ما دفع إلى ردّ فعل من العرب بالتهديد بالويل والثبور للأكراد، وهذان التهديدان الكردي والعربي ما كانا ليكونا لولا التحشيد والشحن العنصري الذي قام ويقوم به قادة كلا الطرفين تجاه بعضهما منذ احتلال العراق في نيسان عام 2003.

بعد الاحتلال بات واضحاً أن خطر بلقنة العراق ازداد، في ظل غياب أي استراتيجية واضحة لتكريس مفهوم المواطنة، وكانت كركوك عنصر هذا التفجير في كل فترة يغيب فيها التوافق السياسي حول الحصص داخل الدولة العراقية.

غير أن ما يحصل يمكن وصفه فعلاً بأنه مشوار الخطوة خطوة نحو الفدرلة، لا سيما مع عودة الحديث بقوة عن الدولة الكردية، ما يعني تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات: شيعية في الجنوب، وكردية في الشمال، وسنية في بغداد كمركز للحكومة الفيدرالية كما أقرها دافيد فيليب المستشار السابق في البيت الأبيض. على أن تتولى كل دويلة توفير الأمن والنظام والاقتصاد ضمن حدودها، وتكون بغداد مسؤولة عن السياسة الخارجية والتنسيق العسكري.

في ضوء ذلك، يثير المشهد «الكركوكي» الراهن خوفاً وقلقاً كبيرين، لما ينطوي عليه من تفتت وتبعثر عرقي ومذهبي وعشائري، ولما يحدث فيه من صدامات بين هذه الجماعات، ولذلك فإن الأسئلة المحورية تبدو مشروعة في كثير من مناقشات تلك الجماعات القاطنة في المتحد «الكركوكي». ولعل أهم هذه الأسئلة هي: هل يمكن تكوين رؤية محددة وواضحة للمستقبل السياسي للعراق في ضوء الانقسام العمودي بين أطياف المجتمع العراقي وتضارب مصالحه وتوجهاته الجهوية؟

من الواضح أنه بعد الاحتلال الأميركي انتشرت الفوضى وحالة عدم الاستقرار في العراق، لذلك سعى كل فريق إلى الاحتماء بانتمائه العرقي أو المذهبي أو العشائري، طلباً للأمن، وهو ما أظهر إلى السطح فسيفساء تكوين المجتمع العراقي الذي يعجّ بالانقسامات والتقسيمات التي خلفها النظام السابق، ولكل من أصحاب هذه التقسيمات رؤيته المختلفة للمستقبل السياسي العراقي ولدوره ومكانته فيه.

وبما أن تنظيم الانتخابات التشريعية على وشك البدء، فإن المطلب الكردي يكتسب إلحاحية ملتبسة بطرد العرب. لذا فإن تحديد من يعيش ويصوت في كركوك، مسألة سوف تساعد على تقرير نتيجة التصويت ومن الذي يحكم سيطرته في منطقة يعتبرها المكون العراقي الكردي له ومظهراً من مظاهر «جدل الهويات»، بعدما أخذت الصراعات تتربع فوق لغة العقل في تلك المنطقة.

أكراد العراق قالوا في كركوك إنها «قدسهم»، والتركمان رأوا فيها حلمهم، والعرب أكدوا أنها مورد حياتهم، والآشوريون اعتبروها تاريخهم! إنها بالفعل كما وصفها الملا مصطفى البارزاني مدينة «القلبالغ» وتعني بالعربية مدينة المشاكل. ولكن الإصرار على أن كركوك جزء من «كردستان» و«عربستان» و«تركمانستان» و«آشورستان»، سيجعلها قابلة للتفجير، فهل نستبق هذا التفجير بجعلها مدينة الجميع؟

إن شروط التغيير داخل الجماعات العراقية، يجب أن تتمثل بالمشاركة من خلال مؤسسات المجتمع العام تجسيداً لمعنى المواطنة، بحيث يشعر الفرد الكردي أو التركماني أو العربي أو الآشوري العراقي عبر هذه المشاركة بأنه مواطن حقاً، ويكتمل وعيه بحقوق هذه المواطنة وواجباتها كلما تفاعل أكثر مع مجتمعه العام، ولذلك ستؤدي هذه المشاركة أهم دور لها في تشكيل نظرة المواطن العراقي إلى نفسه ومجتمعه ووطنه، وبالتالي إلى شركائه في هذا الوطن، أي في صفة المواطنة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى