«يوتوبيا» متسامية نظريّاً لا تنزل إلى أرض الواقع 5
جورج كعدي
آمن ديدرو Diderot 1713 ـ 1784 بأنّ الطبيعة لم تُعطِ أيّ إنسان الحقّ في حكم الآخرين، مؤكّداً رفضه أن يغدو مثل العديد من معاصريه مشرّعاً للقوانين. وبدا شديد الانسجام مع أفكاره ومبادئه حين نُصّب، بحسب الحكاية الطريفة، ملكاً لثلاث سنوات على التوالي بفضل عثوره على حبّة في قطعة الحلوى خاصته لعبة أريستوقراطيّة للترفيه عهدذاك ، وكان عليه بوصفه «ملكاً» أن يصدر قانوناً، فكتب مقطوعة شعرية صغيرة يقول فيها:
«فرّق تسد، تلك هي الحكمة القديمة،
أتت من طاغية، ولذلك لم تصدر عنّي،
وقد عاهدت نفسي أن أوحّد بينكم، فأنا أحبّ الحريّة،
ولو كانت لديّ رغبة أودّ تحقيقها
فهي أن يؤدّي كلٌّ منكم واجبه»
ثمّ حلّت السنة الثالثة الأخيرة على ديدرو «ملكاً» فكتب مقطوعة أخرى تخلّى فيها حتى عن حقّه في أن يفعل كلّ إنسان ما يشاء، معلناً أنّه ما دام قد رفض أن يُملى عليه أيّ قانون، يرفض كذلك فرض أيّ قانون على الآخرين:
«لم يحدث قطّ أن ضحّى أحد بحقوقه
في سبيل المصلحة العامّة
والطبيعة لم تجعل الناس عبيداً وأسياداً
ولا أريد أن أفرض قانوناً ولا أن يُفرض عليّ قانون
لقد انتزع بيديه أحشاء القدّيس
إذ لم يجد حبلاً يشنق به الملوك»
حاول ديدرو تقديم وصف لمجتمع بدائيّ حرّ لا يعرف الحكومات ولا القوانين. كتابه «ملحق رحلة بوغينفيل» Suppl ment au voyage de Bougainville، الصادر عام 1796، هو وصف خياليّ للعادات التي اكتشفها بوغينفيل ورفاقه حين وطئت أقدامهم جزيرة تاهيتي للمرة الأولى، وكان لوي أنطوان بوغينفيل اكتشف مجموعة جزر في المحيط الباسيفيكي، بينها جزيرة تاهيتي، خلال رحلته الكبرى بين عامي 1766 و1769، ولدى عودته إلى بلاده نشر عام 1771 تقريراً عن رحلاته قُرئ على نطاق واسع. وبعد سنة كتب ديدرو تقريره الخياليّ عن زيارة بوغينفيل لتاهيتي، موجّهاً فيه اتهاماً شديداً للحضارة القائمة على القوّة المسلّحة والدين. وكُتب هذا الملحق على شكل حوار، وهنا في ما يأتي مقطع من «وداع الرجول العجوز»، أحد فصول التقرير: «كان أباً لعائلة كبيرة. ولمّا وفد الأوروبيّون نظر إليهم بازدراء، ولم يُبْدِ دهشة ولا خوفاً ولا حبّ استطلاع. حاولوا الاقتراب منه، لكنّه أدار لهم ظهره وقفل عائداً إلى كوخه. كشف صمته وقلقه عن الأفكار الحقيقية التي تدور في ذهنه: راح ينعى أيّام المجد التي عاشتها بلاده بعدما أفلت شمسها. ولمّا تهيّأ بوغينفيل للرحيل وراحت حشود الأهالي تهرول إلى الشاطئ وتتعلّق بثوبه وتعانق رفاقه وتبكي، تقدم العجوز في كبرياء وتحدّ قائلاً: ابكِ يا شعب تاهيتي المسكين! ابكِ. ليتها كانت ساعة قدوم هؤلاء الطامعين الأشرار لا ساعة رحيلهم. سيأتي يوم تعرفون فيه بصورة أفضل. سيعودون يوماً وفي إحدى اليدين قطعة الخشب التي ترونها الآن معلقة بحزام هذا، وفي اليد الأخرى السيف المتدلّي من حزام ذاك. بهذين سوف يستعبدونكم ويقتلونكم أو يذلّونكم بنزواتهم ورذائلهم. وسوف تضعون أنفسكم في خدمتهم ذات يوم، وتصبحون فاسدين مثلهم، حقيرين، مقزّزين. ولكنّني أواسي نفسي بالقول: بلغت نهاية رحلتي، ولن أعيش حتى أرى الكارثة التي أتنبّأ بها. آه يا شعب تاهيتي! آه يا أصدقائي! إنّ لديكم وسيلة النجاة من هذا المستقبل المفجع. لكني أفضّل الموت على أن أنصحكم بها. لذا أخاطب نفسي: دعهم يمضون في طريقهم دعهم يعيشون.
ثم توجّه إلى بوغنفيل وتابع قائلاً: أمّا أنت، يا قائد هذه العصابة التي تطيع أوامرك، فخذ سفينتك وأسرع بالابتعاد عن شواطئنا. إنّنا أبرياء، سعداء، وليس في وسعكم إلاّ أن تفسدوا سعادتنا. نحن نتبع غرائز الطبيعة النقيّة، وقد حاولتم محو الأثر الذي طبعته على أرواحنا. كل شيء هنا ملك لكلّ إنسان … . لقد احترمنا إنسانيّتنا التي لا تختلف عن إنسانيّتكم. اتركونا لعاداتنا التي نشأنا عليها، فهي أحكم وأشرف من عاداتكم. لا نريد أن نقايض ما تسمّونه جهلنا بحضارتكم العقيمة، فنحن نملك ما هو ضروريّ وصالح لنا. هل نستحقّ الاحتقار لأنّنا لم نتطلّع إلى الحاجات السطحيّة الفائضة؟ إنّ لدينا ما يكفي طعاماً لنا إذا جعنا، وما يكسونا إذا شعرنا بالبرد … الويل لهذه الجزيرة، الويل لشعب تاهيتي ولأجياله المقبلة، والويل لذلك اليوم الذي زرتمونا فيه للمرة الأولى. إننا نعترف بمرض واحد يصيب جميع البشر والحيوان والنبات، هو الشيخوخة، لكنّكم جئتمونا بمرض آخر ولوّنتم دماءنا … سوف تتشرّب حقولنا دماءكم الفاسدة التي تسرّبت من عروقكم إلى عروقنا، وإلاّ فإنّ أطفالنا، الذين حكم عليهم أن يرضعوا الشرّ الذي نفثتموه في آبائهم وأمهاتهم سينقلونه إلى الأبد إلى ذرّيتهم». يتبع