المكان في تكوين الهوية
نظام مارديني
مقاربة موضوع «الهوية» معرفيّاً في الفضاء السوري والهلال الخصيب، أشبه بعملية دخول في الفاصلة الأهم والأخطر من الطريق الطويل الشائك الذي يفترض أنه يفضي إلى بناء الدولة الحديثة ذات الطابع المدني الديمقراطي.
فمنذ بدايات تشكلها في القرن السابع عشر تقوم الدولة المدنية الحديثة على ثلاثة أسس رئيسية: حدود جغرافيا سياسية تحدّد كيانها، ومواطنون من سكانها، وقوانين يتساوى أمامها مواطنو الدولة بغض النظر عن جنسهم أو لونهم أو عرقهم أو دينهم أو لغتهم.
يقول الشاعر السوري أدونيس إنّ «الهوية الثقافية، مثل الحب، هي حوار، ارتباط بين الذات والآخر. فالآخر ليس حاجة حوارية فقط: إنه عنصر مشكّل للذات». ولكن هذه الذات مرتبطة بالمكان، أي بالبيئة الطبيعية التي تشكّل هوية الفرد والجماعة.
صحيح أن عملية البحث عن هذه الهوية لا تخلو من التحديات والصعاب، إلاّ أنها في الوقت نفسه فرصة ضرورية للتعرّف إلى مَوَاطن القوة الكامنة في داخل الفرد والمجتمع واستثمارها إيجابياً.
يتحدّث هارالد ميللر مؤلف «تعايش الثقافات»، الحانق على صموئيل هنتنغتون، عن الدولة بوصفها إبنة الجغرافيا الملموسة والتي لا يمكن تجاوزها أو تجاوز حكم الأسماء فيها، إلا أنّ «الثقب الأسود» الذي تركه الصراع في العراق وسورية حاول أن يسقط طرحه أرضاً. لكن التأسيس الحقيقي لنظرة تعتد بجدال المكان والبيئة الجغرافية في تحديد مفهوم الهوية وتشكيل شخصية الإنسان، ينبغي أن يتأسس على أن الهوية مفهوم مستقر وثابت، ومفهوم قلق يمثل نقطة تقاطع مؤثرات عديدة وظروف مختلفة، لكنها لا تتغير بتغير الزمان والمكان أو تختلف باختلافهما، فالعناصر الأساسية في تكوين الهوية تكتسب صفة سيرورتها وتحوّلها الدائم داخل حدود جغرافية واحدة.
وهنا لا بد من رؤية أن التنوع البشري، الإثني ـ الثقافي، معطى تاريخي، وظاهرة لصيقة بالوجود الإنساني وطبيعة البشر، فيما التعددية أطروحة فلسفية نظرية، وممارسات وإجراءات سوسيوسياسية ترتكز في مرجعيتها على ذلك المعطى وتلك الظاهرة. والتعددية عامة تنبع من حاجة الفرد والمجتمع، لوعي ماهية انتمائه وهويته، ومن يكون إزاء الانتماءات والهويات الأخرى، وما موقعه ودوره في العالم، تاريخياً، وفي هذه اللحظة، ومستقبلاً. لكن التعددية لا تعني عزلة الجماعات بعضها عن بعضها الآخر وإقامة كانتونات ذات حدود محروسة بين جماعة وأخرى. حين تُفهم هكذا تكون المقدمة لنشوء سوء فهم مؤسف وسوء تمثيل للآخر وتصويره، ما يُفضي إلى احتدام الكراهية والنبذ والإقصاء، ومن ثم الميل إلى العنف.
في كتابه «الهوية والعنف وهم المصير الحتمي» 2006 يرى إمارتيا صن، وهو فيلسوف واقتصادي هندي، حاز نوبل الاقتصاد عام 1998، أن أسهل السبل «ليس دوماً أفضل طريقة لبناء مستقبل لأي بلد، خاصة عندما يكون هناك شيء مهم جداً على المحك هنا، وبالتحديد الحاجة إلى أن تكون الأمة كتلة من المواطنين، لا مجموعة من الإثنيات الدينية».
لقد ميّز علم النفس الاجتماعي العلاقات بين الهوية الاجتماعية والانتساب إلى الجماعة، فيمكن أن نميّز جماعات الانتماء من جماعات المرجعية. ودلت أبحاث تاغفل وترنر على أن الأفراد يميلون إلى بناء هويتهم الاجتماعية انطلاقاً من معطيين، فهم يبحثون عادة عن هوية اجتماعية إيجابية مبنية على مقارنات جيدة يمكن أن تُنفَّذ داخل مجموعات انتماءاتهم وبعض مجموعات مرجعياتهم، وعندما لا تحقق مجموعة الانتماء تقويمها إيجابياً يحاول الآخر مغادرة مجموعته أو جعلها أكثر إيجابية.
الهوية ليست وجوداً سابقاً علينا، يتلبسنا ويُحكم إغلاق دائرته حولنا فحسب، إنما هي وجود يتشكل بناء على ما نتلقاه من تعليم وما نرثه من معارف وما نتعرض له من مؤثرات، وجود يكبر بنا ومعنا، نشكله ويشكلنا في آن واحد، أي هو ذاك التفاعل العمودي والأفقي بين الفرد والأرض وتفاعلهما، ويحصل بالتطور لا بالخلق كما يلاحظ عالم الاجتماع النهضوي أنطون سعاده في مؤلفه القيم «نشوء الأمم».
الهوية ليست إذن أساس وحدة المجموعة، بل هي حاصل سيرورة وتتابع التماثل والتمايز الذي تسعى المجموعة من خلاله إلى تأسيس تماسكها وإبراز موقفها بالنسبة الى مجتمعات أخرى. فالفرد من هذا المنظار هو ابن البيئة الجغرافية السورية ونتاج التاريخ السوري بتحولاته التراجيدية وتناقضاته وصراعاته وإشكالياته وتحديات البيئة الطبيعية تفرض على السلوك وعلى طبيعة الشخصية الفردية والاجتماعية شروطها. لكن، بقدر ما يتكيف الفرد والمجتمع مع معطيات البيئة بقدر ما يتكيف مع تحدياتها وتحولاتها، وهذا لا يعني البتة أن البيئة الطبيعية وإرث التاريخ السياسي والاجتماعي لا يكفيان لحقيقة ميول الأفراد والجماعات للمجتمع السوري. وبهذا المعنى يعتبر المكان مادة الذاكرة وإطارها، وهو منظومة تفاعل بين الجماعات والأرض، كما يشير إلى ذلك سعاده في كتابه «نشوء الأمم» إذ يعتبر أن «الأمّة جماعة من البشر تحيا حياة موحّدة المصالح، موحّدة المصير، موحّدة العوامل النفسية المادّية في قطر معيّن يُكسبها تفاعلها معه، في مجرى التطور، خصائص ومزايا تميّزها عن غيرها من الجماعات».
هكذا، حين نكون إزاء الثنائية الكبرى، الأرض والإنسان، إنما نكون في الحقيقة إزاء وجود مجتمعنا السوري ومصيره. فالجماعات البشرية تتفاعل في إطار أمكنتها وعبرها. والذين يتفاعلون في وحدة حياة في المكان الواحد يخترعون عوامل وحدتهم من لغة وتقاليد وتاريخ، وهي نتاج تجربة حياة مشتركة لفترة تمتدّ لألوف السنين.
غير أن ذلك كله لا يعني أن ثمّة عناصر جوهرية في تركيبة الهوية تتصل بالدين واللغة والقيم الاجتماعية المختلفة، رغم أنها مؤثرات ناتجة من مجرى تطور المجتمع مع نفسه، مؤثرات تمكّن من استيعاب المتغيرات الطارئة كمحددات جديدة للهوية أو محددات جديدة لا يمكن تعريف الهوية أو تحديد علاقتها بالعصر في معزل عنها.
لا تظهر الهوية الاجتماعية إذن على أنها انعكاس بسيط أو تجاور وتجميع في ضمير الفرد وانتمائه وأدواره الاجتماعية. إنها كلّ ديناميكي نشيط فاعل تتفاعل جميع عناصره في تكاملية أو في صراع. وهي تنتج من «استراتيجيات انتمائية» يحاول الفرد من خلالها الدفاع عن وجوده ورؤيته الاجتماعية، ودمجه في المتحد، وفي الوقت نفسه يقوِّم ذاته ويبحث عن تماسكه المنطقي الخاص به.
إن أكبر تحدّ يجابه سورية هي محاولة الجماعات صناعة مزيد من الهويات الفرعية التي تُقسِم الشعب إلى مسمّيات جديدة وعناوين تتيح هي الأخرى لصُناعها احتلال مقعد هنا أو هناك. غير أن اعتقاد الجماعات الطائفية والمذهبية والإثنية بأن انفصالها بعضها عن بعضها الآخر، سيحلّ المشاكل التي تعاني منها، هو وهم هائل، فالانفصال سيحكم عليها جميعاً بمصير الضعف والانسحاب من ساحة الفعل التاريخي في المنطقة الى أبد الآبدين.
إن تثبيت الهوية ليس مجرّد إظهار وانعكاس للوحدة الثقافية والاجتماعية لدى مجموعة ما، بل إحدى الوسائل التي تحاول المجموعة ان تبني وحدتها بها. هذا المقدس المحرك يقترح على أعضائه صورة مجموع موحَّد متجاوزاً التنوعات الحقيقية.