ثوابت الإدارة السياسية وتجاهل سعودي «ملحوظ» للحريري
روزانا رمّال
ليست المرة الأولى التي يعيش فيها لبنان مرحلة انتظار لحين تشكيل حكومة تؤسس للمرحلة المقبلة في البلاد. وليست المرة الأولى التي يكتشف فيها اللبنانيون عجزهم عن تشكيل حكومة بمفردهم.
الفرصة اللبنانية اللبنانية كادت تكون سانحة للمرة الأولى لإثبات ذلك للخارج بعد الانتخابات النيابية التي أفرزت وبشكل استثنائي و»مستجدّ» نتائج غير متوقّعة عند الكثير من التيارات السياسية، بسبب قانون الانتخابات الجديد وبتخصيص المشهد الحكومي، فإن الحديث عن الوسط أو الشارع السني أو عن القوة الأكثر تمثيلاً يصبح الحديث بديهياً عن تيار المستقبل أكثر «المتراجعين» في هذه الانتخابات، والذي واجه للمرة الأولى خروقاً في الشارع السني لصالح «معارضة» استطاعت تأكيد أن الساحة السنية ليست «مستقبلية» صرفة، لكن مع كل ذلك لا يزال تيار المستقبل هو الأكثر تمثيلاً وشعبية عند السنة. ومع كل ذلك أيضاً لا يزال الرئيس الحريري الأوفر حظاً لتسلّم رئاسة الوزراء نتيجة تسميته بأكثرية أصوات مجلس النواب.
لكن وبالمقابل بما يتعلق بالحريري، فبالبحث القليل عن آثار عميقة لواقع يعيشه منذ أشهر ما بعد الاحتجاز يتأكد أنه سُمّي لتأليف الحكومة اللبنانية برعاية لبنانية – لبنانية وبالتحديد «8 آذارية». وهو للمرة الأولى لم يكن مرشحاً «سعودياً» بارزاً على غرار المراحل السابقة، بل إنه «انتزع» تسميته بإجماع اللبنانيين حوله الذين أرادوا تطبيق مبدأ تمثيل الأقوى في طوائفهم بالرئاسات الثلاث. وهذا بطبيعة الحال، كان مبدأ نادى به رئيس الجمهورية ميشال عون مع حليفه حزب الله، لحظة انتخابه واضعاً هذا ضمن صفقة رئاسية معروفة الأطر تقضي بأن يكون الحريري رئيساً للوزراء، لكن من دون مبادرة دولية حينها باتجاه ذلك، فعدم موافقة المملكة العربية السعودية أو «الفيتو» الذي وضع على العماد ميشال عون استمرّ لأكثر من سنتين حتى لحظة قرّر المجتمع الدولي تحييد لبنان عن الصفقات النهائية في المنطقة والمفاوضات التي قد يطول أمدها وذلك لأسباب عدّة أبرزها: الوضع الأمني الذي إذا ما تفجّر كان سيعني حينها موجات جديدة من النزوح نحو أوروبا وإخلال بأمن واستقرار عواصم دول الاتحاد إضافة إلى كون لبنان منذ تلك اللحظة حتى اليوم مقراً للبعثات الدولية الاقتصادية والأمنية ونقطة انطلاق باتجاه المنطقة وصل باتجاه إعادة إعمار سورية، أما أخيراً، فإن العبث الأمني في لبنان «الخاسر» هو بؤرة جديدة مكلفة للمتقاتلين على الساحة السورية، خصوصاً أن حزب الله الجاهز للقتال كان يعني حين استدراجه نحو معركة داخلية أن يسيطر بالكامل على مقدرات البلاد والنيل من المتعاونين المحليين من خصومه مع الإرهاب، وبالتالي كانت فرصة لرفع «شعبيته» محلياً، وتبرير استخدام سلاحه بالداخل وتعميق أزمة ضعف المؤسسات الأمنية.
الحريري الموجود اليوم برغبة عونيّة من خصومه حلفاء «سورية وإيران» يعرف هذا الواقع جيداً، لكنه يتمسّك فيه لأنه خيار «محلي» بعد أن قوبل ذلك باتفاق على عدم نقل المشاكل مع حزب الله الاستراتيجية إلى أعلى الطاولة. فيبقى الخلاف على الملفات الخارجية بمقابل السعي الى الاتفاق على الملفات المحلية والمشاركة بالحكومة «قائم».
عوقب الحريري على تعاونه مع حزب الله في الحكومة، لكن المملكة العربية السعودية أدركت أن مهاجمة حزب الله وتحريض الداخل حكومياً على عدم المشاركة معه أمر غاية في الصعوبة، حتى أن النائب وليد جنبلاط الذي يُبدي علاقة مميّزة بالسعوديين يُوحي لهم بفصل الخلاف بين سورية وحزب الله بالنسبة لرؤاه المحلية ولا يقدّم اعتمادات للهجوم على حزب الله محلياً، كما أن الحزب يُبدي خصوصية ملحوظة لجنبلاط عندما تصل الأمور لحساسيات تلامس السلم الاهلي والتعايش. الأمر نفسه يتعايش معه حزب الله باتجاه السوريين الذين لم يطالبوه يوماً بقطع العلاقة مع جنبلاط منذ أزمة 2011.. هكذا تبدو الأطراف اللبنانية «أقدر» من أي وقت مضى على إيصال رسائل التوازنات المحلية للقوى الخارجية حول أفضل «الممكن» لتأمين مصلحة البلاد.
التوافق الداخلي حول التعايش مع كل القوى السياسية موجود، بالرغم من كل التعقيدات التي تطفو على السطح. ووسط هذه السلبية فإن نجاح اللبنانيين بإدارة العلاقة بينهم على الاساسيات تؤكد التعلم من تجارب عدة أبعد من الحرب الاهلية وحادثة 7 ايار 2008 أكدت مخاطر إحياء مشاهد الحرب الأهلية. أما اليوم فصار التعاطي مع ميزان قوى الأحزاب والتحالفات والارتباطات الخارجية أكثر قدرة على قراءة السياسة، وبدلاً من الاستماع إلى تعليمات الخارج صارت نصائح القوى المحلية للأطراف الدولية أوفى كضرورة تقبل «التأقلم» مع وجود حزب الله، مثلاً كمكوّن لبناني أساسي وعدم الاشتباك معه وتقدير قوته محلياً وأمنياً.
هكذا فعل الحريري مع الغرب والخليجيين، وربما تعرّض بسبب تقبله هذا الواقع إلى أسوأ أنواع الأزمات التي قد يعيشها رئيس للحكومة في هذا العالم…»الاحتجاز» وإجباره على الاستقالة وشنّ حرب على مكون أساسي في البلاد».
حساسية هذا الملف وتداعيته لم تتوقف. والحريري اليوم متروك من دون دعم سعودي أو دفع باتجاه حلفائه لتسهيل مهمته، لأن المنطق يفضي بتنازل حلفاء الحريري لتسيير دوره، خصوصاً أنهم «خسروا» أكثرية مجلس النواب وعليهم الارتضاء بأحجامهم الحقيقية «بالمنطق»، مع العلم ان حكومة الوحدة الوطنية وتوحيد المعايير هي أفضل المخارج لرفع تمثيل «الخاسرين».
حلفاء الحريري المحليين والإقليميين يعطّلون مهمته ولا قرار سعودي بالدفع نحو تسريع الحكومة، حسب معلومات «البناء» التي تفرض عليه أن يتمسّك بمطالب حلفائها «تقطيعاً» للوقت وعرقلة لتشكيل يكرّس قوة حلفاء حزب الله، كما أن الحريري لم يحصل حتى اللحظة على موعد للقاء ولي العهد السعودي محمد بن سلمان عنوة عن حلفائه، ذلك للتحدث معه حول الشأن الحكومي المحلي… فإلى متى الانتظار وعلى ماذا الرهان؟ وهل سيكون لروسيا دور جديد على صعيد دفع ولادة الحكومة اللبنانية بعد المبادرة باتجاه حلّ أزمة النازحين الأكثر تعقيداً بمباركة أميركية؟