ردّ على لامع الحرّ خسئت الأيدي الممتدّة إلى جرح سعاده
بقلم الدكتور ربيع الدبس
بدافع ظاهرهُ «الحبّ والحرص، ليس إلاّ»، ينبري بعض المتطفّلين على الثّقافة والأدب إلى تناول الفكر النّهضويّ الفذّ الذي أتت به الحركة السّوريّة القوميّة الاجتماعيّة بعبقريّة مؤسِّسها وعطاءات مناضليها ومفكِّريها وأدبائها ومثقّفيها، بخفّة النّظر الجزئي إلى الأمور، وبموقع المنحاز الذي أعماه التعصُّب عن رؤية الأمور على حقيقتها وفي حجمها وحيثيّاتها.
من ذلك مقالة نشرتها مجلّة «الشِّراع» في باب «قضايا» تحت عنوان: «صراع ملتهب بين القروي وسعاده» للشَّاعر لامع الحرّ. وقد صدمنا فعلاً أن يكون صاحب المقالة قد أهمل المفاصل الأساسيّة لما دعاه «الصِّراع الملتهب» بين واضع أسس الوحدة الاجتماعيّة لأُمَّةٍ جزّأها الاستعمار وقصم ظهرَها داءُ المذهبيَّات، وبين شاعرٍ عزف على الوتر الطّائفيّ وأسَّسَ لفتنةٍ قذرة في المغترب البرازيلي بين أبناء الوطن الواحد، الوافدين من وطنهم الأمّ إليه. وزاد في صدمتنا أنَّ «الحرّ» لم يكتفِ بالمقارنة بين رجلين ليس من المنطق الموضوعيّ المقارنة بينهما، بل وضع القروي في هالة «الكبرياء والصولجان والاعتداد والموهبة الفذّة والشِّعر الجميل الهادئ المنساب الرّقيق». في حين ألصق بسعاده تهم «التناقض، والمواقف الشخصيّة الموتورة، والسَّعي الحثيث لإلغاء الآخر بشكلٍ اعتباطيّ حينًا، وبشكلٍ مدروسٍ حينًا آخر، والوقوع في مطبّ إنكار شاعريّة القروي، والتركيز على النِّقاط السّخيفة في نسبة تأثّر الشّاعر القروي بالدكتور خليل سعاده، والتحرّش بشعراءٍ آخرين كأبي ماضي، والتناقض البيِّن في أقواله بسبب نزعة التجنِّي والتشفِّي المهيمنة عليه…» إلخ.
هكذا، وبكلِّ صفاقة، يتنطَّح واحدٌ من الغرباء عن القضيّة قضيّة المجتمع الإنساني في سورية الطّبيعيّة، قضيّة التربية والتثقيف والتوعية لمعنى الحياة ومعنى الوجود، لمعنى العزّ وفحوى الكرامة، لمعيار السّموّ النّفسي في مقابل الانحدار الخلقي والمناقبي. وقد صدق سعاده في أمثال هذا الغريب عن القضيّة حين قال: يا لذلّ قومٍ لا يعرفون ما هو الشّرف وما هو العار.
لقد أظهر «الحرّ» جهله المطبق بتعاليم النّهضة وجهله المطبق بمراميها ومفاهيمه ومطالبها العليا، فرصفَ كلماتِ الكيدِ والحقد المعشّشين في نفسه، العمياء عن كلِّ شيءٍ إلاّ عن الدّفاع الشّيطاني عن رشيد سليم الخوري. فعندما ذكر توصيف سعاده له تعمَّد إهمال الحيثيَّة الّتي أدّت إلى ذلك الوصف. وعندما أعلن سعاده موقفًا من طروحات شكيب أرسلان كان لذلك الموقف أسبابه الواضحة أيضًا. لكن ذلك كلُّه مطموسٌ عند لامع الحرّ. حتى إشادة سعاده بسعة الأفق الفكريّ لدى الشّاعر شفيق معلوف، لم تجد عند كاتب المقالة استحقاقًا لذكرها. وقد بلغ بكاتب المقالة «الحرص» أنّه جعل العصبة الأندلسيّة ذات رؤية تجديديّة جعلت أعضاءها «يتفاعلون مع قضايا أمّتهم تفاعلاً يجعلهم جزءًا من كيانه وحركته وسعيه إلى التحرّر» في حين رأى أنّ الرّابطة القلميّة «تهتمّ أكثر بالقضايا الإنسانيّة العامّة وقضايا الدّين والتّراث الصّوفيّ ولا تخفي تأثيراتها بالغرب».
فإذا كان جبران خليل جبران الّذي يُعتبر القائد الفعليّ للرّابطة القلميّة لم يتميَّز بالدّعوة إلى التّحرّر ولم يتفاعل مع قضايا أمّته تفاعلاً يجعله جزءًا من كيانها وحركتها وسعيها إلى التّحرّر… إذا كان جبران لم يضطلع بالدّور التجديدي بل الانقلابي في الرابطة القلميّة، وإذا كان كلُّ ما كتبه عن المؤسّسات الدينيّة المغلقة والإقطاع الاجتماعيّ والسّياسيّ والاقتصاديّ والتّضييق على المرأة إذا كان كلُّ ذلك لا يجعله في مصاف «العصبة الأندلسيّة»، فلِمَ كلُّ هذا التّأثير لكتب «الأرواح المتمرِّدة» و«عرائس المروج» و«حديقة النّبي» و«رمل وزبد»؟ ولماذا ما زال كتاب «النّبي»، بعد عشرة عقود على صدوره الأوّل، يُطلب عالميًّا بملايين النُّسخ؟
إنَّ من المؤسف أن يلجأ كاتب المقالة إلى الفصل المُطلق بين الأدب والسّياسة. أليس الأديب الحقّ منارة الجماعة وقدوة العصر؟ أليس المثقّف خفير القيم؟ وما موقع الأديب المنخرط في عمليّة التجزئة باسم الدِّين الّذي يتزيَّا به ساعة يشاء وفقًا لمصالحه وأهوائه؟ يقول عبد الكريم غلاّب في كتابٍ له قيِّم، إنّ تخلف التّفكير في العالم العربيّ ربّما «كان راسبة من رواسب التّخلّف الفكريّ، أو نتيجة لغياب الفكر العلميّ مدّة طويلة من الزّمان لحساب الفكر الأدبيّ» 1 .
وبالفعل لقد خبط «الأديب» لامع الحرّ في مقالته خبط عشواء وتطرَّقَ إلى أمورٍ لا نسمح لأنفسنا أن ننجرَّ للردّ عليها لأنَّها من التّفاهة بحيث تدلّ على نفسها دونما دليل. ولكن خسئت الأصوات الّتي تحاول النّيل من قامة سعاده.
أمّا الديمقراطيّة الّتي يتحدّث عنها فلا يُمكن أن تكون ديمقراطيّة الفتنة الطائفيّة والتّفرقة بين الأديان لأنّ واجب القروي والحرّ كما هو واجب الجميع: التركيز على الجوامع في الأديان لا على الفوارق. إنَّ ديمقراطيّة الوطن وديمقراطيّة السّماح الدّيني ترفضان فوضى العنعنات الطّائفيّة المزعومة ديمقراطيّة. وإذا كان سعاده قد وصف إحدى قصائد القروي الإباحيّة، لدرجة الانحطاط، بالقصيدة المجرمة الّتي بدت فيها «الحيوانيّة المادّيّة مجرّدة حتّى من روعة الوحشيّة، أو قُل هي وحشيّة منحطّة»، فذلك لأنّ في المقطوعة «الخوريّة» كمًّا من الإسفاف الغرائزيّ يستحيل هضمه. وربّما لم يسمع لامع الحرّ بقول همرشولد مخاطبًا الإنسان: «لا تستطيع أن تُداعب الحيوان الّذي فيك إلاّ وتصبح بالكلية حيوانًا» 2 .
لقد فصل العقل «الألمعي» بين السّياسة والأدب ولم يفصل بين السياسة والدّين، فحلَّلَ الفصل الأوّل وحرَّم الفصل الثّاني. وهنا الأغلوطة الكبرى. يقول سعاده عن الدكتور فخري معلوف في إحدى رسائله الموجّهة إلى غسّان تويني: «… شرحت له عدم تدخّل نهضتنا في أيّة مسألة من مسائل الإيمان الدّيني وعقائده المتعدّدة والمتنوّعة» 3 .
وإنّي لأذكر خلال متابعة دراستي في مرحلة الماجستير أنّ اثنين من أترابنا في الجامعة تنافسا على كتابة الرّسالة الجامعيّة عن القروي، وكلّ منهما يزايد على الآخر في حبّه للقروي بداعٍ تعصّبيّ وحيد، هو أنّ الأخير قد غيَّرَ دينه من المسيحيّة إلى الإسلام، معتبرًا أنّ «سيف محمّد أجدى من محبّة عيسى». وكلا الرأيين متهافتٌ حتّى السّفسطة لأنّ الإسلام لا يمكن اختصاره بسيف كما لا يمكن اختزال المسيحيّة بمحبّةٍ رومانسيّة. هذا في جوهر الدّعوة، فكيف بهما بعد الملحقات الاجتهاديّة والعرفيّة والحقوقيّة، إضافةً إلى ما ليس له علاقة بجوهر الدّين والعقيدة؟
يقول سعاده: «في نظري إنّ المسيحيّة دين وعقيدة، وإنّ المحمّديّة كذلك، وإنّ الكثلكة والأفروتسطنتيّة والأرثوذكسيّة وغيرها، وإنّ السّنّيّة والشّيعيّة والإسماعيليّة وغيرها، فروعٌ دخل فيها كثيرٌ من المسائل الفرعيّة أو المصاحبات السّياسيّة». ويتابع سعاده أنّ الخوض في قضايا لاهوتيّة هي من شؤون الوجدان الفرديّ الخاص «يجب أن لا تثير وأن لا نسمح بأن تثير قضيّة اجتماعيّة سياسيّة». ويخلص إلى الاستنتاج: «لا يمكننا ونحنُ نبغي الصّحيح أن ننظر إلى الدّين بمنظارٍ سياسيّ ولا إلى السّياسة بمنظارٍ دينيّ. يَحْسُن أن يكون الإنسان مؤمنًا في الدّين ولا يَحسن أن يكون مؤمناً في السّياسة». ويتابع سعاده: «إنّ الإيمان الدّيني يُمتحن به الإنسان في دينه لا في قوميّته… وما دام الحساب بيد الله فلنخفِّف قليلاً من غلوائنا فلعلَّ الله يُريد أمرًا على غير ما يراه عباده» 4 .
إنّ الشّغل الشّاغل لسعاده، يا من ضلَّ طريق «البحث عن الحقيقة» لم يكن مهاجمة الشّاعر القروي، «فهدفنا العملي الأوّل في مغتربينا هو توليد الوجدان القومي في أوساطهم…» 5 . أمّا الردّ على القروي فجاء في سياق التصدّي لمحاولات الأخير توسيع الشّرخ الطائفي بين أبناء الجالية السّوريّة في البرازيل، فتصدّى له سعاده في سلسلة مقالات بعنوان «جنون الخلود»، توسّع الحديث فيها عن معنى الأدب ومعايير النّقد، وعن مفهوم الدّين وظروف البيئة الّتي تنشأ فيها الدّيانات، مركِّزًا على المسيحيّة والمحمّديّة ومُجريًا مقارنةً تاريخيّةً وفكريَّةً رائعة بينهما شهد له فيها أمراء الكنيسة وأئمّة المساجد المتنوِّرون. وبعدما استكملت المقالات في النّصف الأوّل من الأربعينات، عاد الحزب فطبعها في كتاب بعنوان «الإسلام في رسالتيه المسيحيّة والمحمّديّة». وقد توجَّه سعاده بالنّداء التالي منبِّهًا من خطر الحزبيّة الدينيّة الّتي أضعفت الأمل بالمستقبل القومي وأحيت أحقادًا كادت تتلاشى: «أيُّها السُّوريّون المقيمون والمهاجرون. إرحموا أنفسكم وعيالكم وذرّيتكم يرحمكم الله. أنبذوا الّذين يريدون بكم شقاقًا، والتفُّوا حول الّذين يريدون بكم وِفاقًا، واتركوا قضايا الأخرى للأخرى، وتعالوا إلى كلمة سواء تجمع شملنا وتُعيد إلينا وطننا وأهلنا وعزّنا وكرامتنا وحقوقنا ومصالحنا، إلى القوميّة السّوريّة الاجتماعيّة، الّتي هي رابطة كلّ سوري وسوريّة بكلّ سوري وسوريّة، ورابطة الأجيال السّوريّة الماضية والحاضرة والمقبلة» 6 .
كما رأى سعاده أنّ على كلّ فريق من المواطنين أن يعترف بصحّة دين الفريق الآخر وعدم اللجوء إلى تسفيهه. لكن الضّابط كما يقول سعاده يكون من العلم ولا يمكن مطلقًا أن يكون من الجهل. لذلك ادّعى «الحارض» القروي أنّه يحاضر، وفضَّل رسولاً على رسول، دون أن يفقه ظروف البيئة والعوامل الّتي ساهمت بأن يكون في تعاليم أحدهما ما ليس في تعاليم الآخر والعكس بالعكس: «فالمقابلة ليست بين المسيح ومحمّد، بل بين سورية والعربة من حيث هما وضعان اجتماعيّان متباينان اقتضى كلّ منهما منحى خاصًّا في الدّين. أمّا الرّسالتان الدينيّتان فغرضهما وجوهرهما واحد» 7 .
أمّا اختلاف الإنجيل عن التوراة والقرآن فهو في أنّه ليس شريعة بل تعاليم فلسفيّة مناقبيّة… إلاّ أنّ الفرق بين المسيح ومحمّد نَبَعَ من ظروف النّشأة في مجتمعين مختلفين 8 .
لكن الديانتين أو الرسالتين وجدتا لتحسين الخليقة، والدِّين وُجدَ للإنسان لا الإنسان للدّين، كما يقول العلاّمة خليل سعاده الّذي استدلّ لامع الحرّ على «تقدُّم القروي عليه أهميّة» بسؤاله: من يسمع اليوم بخليل سعاده؟ ونحن نقول له وللسذّج أمثاله: هل الشّهرة دائمًا دليل جودة؟ أليس قاطع الطّريق أحيانًا أشهر من العبقري المغمور؟ أليس الجيل المعاصر ملمًّا بعادل إمام أكثر من إلمامه بطه حسين؟ وإذا كان جيل لامع الحرّ لم يسمع بروّاد النّهضة أو لم يتأثّر بهم فهذه مشكلة قصوره الفكريّ لا مشكلة الروّاد من أمثال الكواكبي والشميل وفرح أنطون وخليل سعاده وبطرس البستاني واليازجيّين وجبران والريحاني وغيرهم. لكن «الأنا» لا تتقاطع مع «النّحن» ولن تتقاطع. أمّا دعوة «الحرّ» القوميّين إلى إعادة النّظر في القروي «من الناحية الفنيّة لا السياسيّة، لينصفوا الرّجل بعد هذه الحملة الشّعواء عليه»… وذلك بعد قوله: «المهمّ أنّ الرّجلين كان يجب أن يتّفقا وليس أن يختلفا»، فدعوة أقلّ ما يُقال فيها إنّها خبيثة وباهتة في آن. فهو يعرف أنّ القوميّين الاجتماعيّين لا يُساومون على المبدئيّات ولا يُجاملون في الثّوابت. لكنّه يجهل أغوار القضيّة الّتي عبَّر عن إحدى ميّزاتها قول سعاده: «إذا لم يكن لنا توافق مع غيرنا وقامت حركتنا تُريد إيجاد توافق اصطناعي، كانت المحاولة فاشلة لا محالة» 9 .
هذا إذا أغفلنا الردّ على مسألة الأمور الشخصيّة الّتي دعا الحزب بقلم مؤسّسه إلى نبذها، هي والنزعة الفرديّة الّتي اعتبرها شديدة الخطورة على سلامة الشّعور بالمسؤوليّة العامّة.
وبعد…
أيّها المُسمّى لامعًا!!!
أنقلُ إليك وجهة نظر رفيقنا البحاثة جان داية الّذي كتب مرّة أنّه كان يعتبر سعاده قد قسا على القروي أحيانًا في ردوده، إلى أن قرأ جيّدًا ما كتبه القروي، فعجب كيف أنّ سعاده لم يكن أقسى.
فيا أيّها المدّعي الموضوعيّة والتجرّد،
«تذكَّرْ، أنّه لا بأس أن نكون طغاة على المفاسد، وأنّنا نرفض وضع يد أمثالك في جرح سعاده العظيم.
تذكَّرْ، أنّ العبد الذّليل لا يمكنه أن يمثِّل أمَّةً حرَّة، فهو يذلّها 10 .
تذكَّرْ، ولو رغمًا عنك «أنّ مأساة الحرّية الكبرى ليست المعارك ولا السجون. إنّها أقلام العبوديّة في معارك الحرّيّة».
مراجع:
1 – غلاّب، عبد الكريم، أزمة المفاهيم وانحراف التّفكير، مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت، 1998، ص 9.
2 – داغ همرشولد، مثقّف سويدي، أمين عام سابق للأمم المتحدة، سقطت طائرته في ظروفٍ غامضة.
3 – سعاده، أنطون، شروح في العقيدة، بيروت، 1958، ص 27.
4 – المرجع نفسه، ص 36-38-48-50.
5 – المرجع نفسه، ص 84.
6 – سعاده، الإسلام في رسالتيه، ص 275. وانظر أيضًا الجزء الثاني عشر من الآثار الكاملة، ص69.
7 – سعاده، الإسلام في رسالتيه، ص 46.
8 – المرجع نفسه، ص 49-55.
9 – سعاده، المحاضرات العشر، ص 176.
10 – سعاده، طبعة جنون الخلود، ص 288.