ما هو السرّ في تغيّر لهجة الخطب الملكية؟ قراءة في تحوّلات معادلات الداخل والخارج
عبد الفتاح نعوم ـ المغرب
لهجة جديدة هي تلك التي وسمت الخطب الملكية الأخيرة، فهي باتت تحمل رسائل إلى الداخل والخارج على نحو غير مسبوق، ومما يثير الاستغراب انه لم يجر التحضير لها مسبقاً، بحيث يشعر المتلقي بالتدرّج نحو تلك اللهجة. فالداخل بات مسؤولاً أمام الملك بالإجابة عن سؤال أين الثروة، ومسؤولاً عن أسلوب الصراع والمناكفات الحزبية الضيّقة. والخارج/الغرب بات في الخطب مداناً بفرض واقع التبعية والتخلف، وبات مهدداً بالتحاق المغرب بنادي القوى الصاعدة، ولعل الثروة هي الكلمة المفتاحية في خضم هذا الجديد الذي تحمله تلك الخطب. فما هي الصلة بين تلك الرسائل؟ وكيف يمكن قراءة الإشارات التي تحملها في سياق أوسع، هو سياق التحوّلات التي تعصف بالسياسة الدولية؟ وهل تشي بالتقاط مراكز اتخاذ القرار في المغرب لخيوط اللحظة التاريخية المتجسّدة في تحولات جذرية يُقبل عليها العالم؟
تحوّلات داخلية ضاغطة
قليلون هم أولئك الذين انتبهوا إلى جملة مفتاحية قالها الملياردير المغربي ميلود الشعبي في آخر حوار مصور معه على قناة «العربية»، قال إنّ «الحل لمشاكل الاقتصاد المغربي هو الصناعة». ولعلّ أهمية ذلك تعيد إلى الذاكرة طموحاً كان يحمله عبد الله ابراهيم في بدايات ستينيات القرن الماضي، كان يتغيى تصنيع المغرب في إطار اقتصاد وطني مستقل، وكانت نهاية ذلك الطموح على يد واقع التبعية التي فرضها اتفاق «ايكس ليبان»، والذي جعل المغرب يعيش عهداً جديداً من الاستعمار الجديد، بحيث حكمته نخب فرنسا، ورعت المصالح الفرنسية بالوساطة.
لكن لماذا يقول رجل أعمال من حجم ميلود الشعبي الآن مثل هذا الكلام؟ ربما الجواب يكمن في انه هو الآخر وبعض من ممثلي طبقة رجال الأعمال المغاربة حملوا ذات الفهم للتحوّلات الجارية، فدعم رجال الأعمال للحركات الاحتجاجية مثل حركة 20 شباط/فبراير لم يكن إلا فرصة لمقارعة الحلف الذي حكم المغرب بناء على توكيل فرنسي سنة 1956، وعاشت هذه الطبقة صراعاً معه لفك قبضته على الاقتصاد، وفسح المجال أمام هذه الطبقة الطامحة إلى تحرير الاقتصاد وتقوية تنافسيته، وبالتالي فمطلب تصنيع الاقتصاد وتحرير تنافسيته واستقلاليته عن التبعية لاقتصاد الفرنسي/الاسباني كان مطلباً ملحاً منذ مدة طويلة، ووصل اليوم إلى مرحلة أحسّ فيها كل أطراف المعادلة بضرورة التحوّل وحتميته.
فالملك ليس مجرّد رئيس للدولة، وإنما رجل أعمال يمثل طبقة بأكملها لها مصالحها، ولها علاقتها المعقدة مع الاقتصاد العالمي، وتتأثر هي الأخرى بما يحدث في ذلك الاقتصاد من تحوّلات لمراكز القيادة بين قواه التقليدية والصاعدة. ولا شك أنّ التسابق بين جماعات المصالح تلك في المغرب للحديث عن «اكتشافات عظيمة» من قبيل التصنيع والالتحاق بنادي القوى الصاعدة، لا شك انه يعكس قراءات متطابقة لعقول تركن إلى حسابات دقيقة، وقراءاتها تقول إنّ التحوّلات الداخلية ترتبط إلى حدّ بعيد بتحوّلات أكبر، وهي تحمل في داخلها وعوداً كبيرة يمنحها القطب الجديد الذي يسعى إلى قيادة الاقتصاد العالمي، وبأسلوب يختلف عن ذلك الذي انتهجته قوى الرأسمال الغربي الأورو أميركي.
وبالتالي فالسؤال عن مآلات الثروة وتحميل النخب السياسية الداخلية مسؤولية الجواب عنه، وتحميل الغرب مسؤولية «تفاوتات الغنى والفقر» في البلدان النامية، وتهديد الغرب في أكثر من مناسبة بأنّ المغرب يفكر جدياً في الانتقال إلى معسكر القوى الصاعدة، وذلك في مناخ التحضير لزيارة مغربية رفيعة المستوى إلى روسيا. كلّ ذلك يعني ترجمة موازين قوى الداخل إلى أوراق تصرف في تحوّلات الخارج، وتقول تلك الخطب بأنّ من يقود المغرب يقرأ جيداً وبشكل سليم ما يجري في العالم، ويسعى إلى توظيفه لصالح تنفيس الضغوط في الداخل، وتمديد زمن الحظوة «المخزنية» في مجال الاقتصاد قطعاً للطريق أمام طموحات طبقة رجال الأعمال، وحظوة في مجال السياسة والقيم، قطعاً للطريق أمام القوى التي لا تزال تراهن في كلّ حساباتها على الأميركي.
آخر جولات الغرب في آسيا
منذ مدة ليست بالقصيرة شرعت مراكز الأبحاث الأميركية في تناول موضوع الديمقراطية في الخليج، وتناول سيناريوات التحوّلات في موازين القوى داخل بلدانه ذات التطلعات القيادية. فحفلت الدراسات التي يكتبها خبراء وباحثو معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى بالدعوة الضمنية إلى أن تعيد الولايات المتحدة الأميركية النظر في تحالفها مع السعودية، فمثلاً كتبت لوري بلوتكين بوغارت الحائزة على زمالة برنامج سياسة الخليج في معهد واشنطن، عدداً من المقالات بخصوص الموضوع، ودعت في إحداها إلى الانتباه إلى أنّ السعودية قد لا تكون الحليف الأفضل للحرب على الإرهاب نظراً إلى الخلط الذي تقيمه المملكة بين الإرهاب وبين النضال الديمقراطي ضدّ الحكم فيها، فضلاً عن صلة الوهابية المتحالفة مع الحكم هناك بفتاوى الإرهاب وأطره الفكرية.
ويفرد عدد من كبار باحثي مركز كارنيغي للشرق الأوسط دراسات مطوّلة عن قطر وسياساتها، وقد كان من أهمّها الدراسة التي كتبتها لينا الخطيب كبيرة باحثي المركز في الشرق الأوسط، ودراسة كريتسيان كوتس أولريكسن. وهما دراستان عن الدور الإقليمي الذي أرادت قطر بلوغه من خلال الرهان على دعم «الإخوان المسلمين» خلال أحداث «الربيع العربي» والذي باء بالفشل، وانتهى بتصدّع في سياسات مجلس التعاون الخليجي، الأمر الذي كاد يعصف به، ووضع الخليج برمّته أمام تهديدات لا حصر لها، والتي قد تمسّ أمن الخليج برمّته.
فضلاً عن التأثير الذي تحدثه تلك المراكز في قنوات التأثير على الرأي العام، فهي تساهم في إنارة الطريق أمام صانع القرار في الولايات المتحدة، فضلاً على أنها أجهزة إنذار مبكر وقناة هامة لتشكيل الرأي العام. ولذلك سعت قطر إلى امتلاك مؤسستين مثيلتين، يتعلق الأمر بمؤسستي راند وبروكنغز اللتين أنشأتا مركزين لهما في الدوحة. ومع ذلك فالإشارات التي تلقي بها مؤسسات كمعهد واشنطن ومركز كارنيغي يمكن التأسيس عليها، فإعادة تشكيل خريطة الشرق الأوسط مسألة ألحّت على الولايات المتحدة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وقد كان ثمة شبه اتفاق بين كبار العقول الاستراتيجية هناك على أنّ معظم النظم والتحالفات والأنساق السائدة في الشرق الأوسط هي من مخلفات الفترة الممتدّة بين الحرب العالمية الأولى ونهاية الحرب الباردة، وبالتالي ضرورة إحداث التغيير في تلك البُنى هو صمام الأمان للحفاظ على ريادة الولايات المتحدة بما تمثله هذه الدولة الفريدة من مصالح ضخمة ومعقدة في هذه المنطقة الفريدة من العالم.
كانت خطة كيغان لإنقاذ الوضع المتدهور للولايات المتحدة في العراق آخر محاولة لتطويق واقع بيكر – هاملتون، وفي الوقت نفسه آخر مسمار يُدق في نعش مشروع pnac. أما الدول الحليفة في الخليج فكان لا بدّ لها من حسم الصراع بينها على الزعامة الإقليمية بلعب آخر الأوراق التي بحوزتها، علها تشتري اعتماداً أميركياً جديداً لها في المنطقة، وتقطع الطريق أمام إيران كي لا تعود شرطياً بنفَس جديد. فأفسح المجال أمام قطر لوضع كلّ رصيدها في مطحنة «الربيع العربي» وارتطمت طموحاتها بجدار التعقيدات الداخلية والإقليمية والدولية التي تنضوي عليها المعركة التي دارت في/وعلى سورية. وأفسح المجال مجدداً للسعودية كي تعود إلى الدور الذي كان سيؤول إلى قطر، عادت السعودية إلى الساحة المصرية وراهنت على المناورة من خلالها بعد إزاحة قطر منها، لكن ما لم تنجح فيه قطر مع قوة عقائدية تحكم مصر، لن تنجح فيه السعودية مع الجيش وحلفائه في مصر، لا سيما أنّ الحكم الجديد واع لتقلبات النظام الدولي، وينتظر اللحظة المناسبة للانقضاض على الوضع الجديد، بعد أن يكون قد صرف أزماته الداخلية على الدعم الخليجي السخي.
كلّ التفاعلات صبّت في خندق الحرب على «داعش»، وهي حكماً حرب إعادة ضبط بوصلة «داعش» وليس القضاء عليه. وفي جميع الأحوال تبقى عين الأميركي على التسويات التي بات يسابق الزمن إليها. ومهما ربح الأميركي في التسوية سيكون هو الخاسر الأكبر، لأنّ من كان طموحه إقامة حلف عسكري للباسيفيك لن يعوّضه عن خسارته تلك تأمين مقعد ما في تسوية مع إيران أو مع سورية أو مع روسيا. المهم أنّ آسيا ستلفظ عقوداً من الهيمنة المطلقة للأميركي. وحيث أنّ الأمر كذلك فآخر الجولات ستكون «ربيعاً خليجياً» بحيث ستتجه بلدان الخليج إلى تحميل فاتورة الخسائر الإقليمية إلى بعضها البعض، فيما سيُحمّل الأميركي الفاتورة للخليج بأكمله، ولا خسارة للخليج أكثر من أن يقبل بسيادة إيران عليه بالرغم عنه. بحيث ستتطابق خطابات الغرب عن دمقرطة الخليج مع رغبات آمال الشعوب الخليجية وقواها الوطنية، ويتطابق ذلك كله مع مشروع البريكس في دعم الاستقلالات الوطنية المستندة إلى مبادئ القانون الدولي.
منذ مدة ليست بالفصيرة شرع الغرب والأميركي منه على الخصوص في تسويق فكرة المصالحة مع شعوب العالم، وإعادة صياغة صورة الأميركي لديها. وهي حاجة أصبح الرأسمال الأورو أميركي مضطراً إلى تصريفها، خصوصاً بعدما تمكن الرأسمال الآسيوي من تجذير نفسه في البيئات الآسيوية وغير الآسيوية، وذلك على نمط ناعم لا يجعل تلك الشعوب تحسّ بغطرسة شبيهة بتلك التي جعلها الرأسمال الأورو ـ أميركي شرطاً ضرورياً وملازماً لولوجه باقي مناطق العالم.
أولى جولات الصراع في أفريقيا
لا شك أنّ إثارة الملك في المغرب لقضايا من قبيل تدبير الثروة، دخول نادي الاقتصاديات الصاعدة، وإدانة الغرب الاستعماري. هي إثارة تنمّ عن إمساكٍ جيّد لخيوط التحوّلات الجارية، والتي أشرنا إلى معالمهما أعلاه، تحوّلات تمسّ الاقتصاد والسياسة والقيم. هو إدراك بأنّ الصراع على آسيا الذي عمّر طويلا بين القوى العالمية منذ الحربين والى اليوم مروراً بالحرب الباردة، هو صراع قد آل إلى نهايته. وإذا كان الخليج هو آخر جولات الصراع على آسيا، وكلّ المؤشرات تقول إنّ آسيا ستكون للآسيويين، فإنّ إفريقيا القارة المهجورة ستكون موضوع الصراع الجديد. صراع بين القوى الصاعدة من آسيا وأميركا اللاتينية وبين العالم الأورو ـ أميركي.
ومع أنّ المغرب يعيش شبه فراغ في التنظير الاستراتيجي إذ اغلب من يضطلعون بتلك المهمة لا يفعلون شيئاً في أحسن الأحوال سوى الدفاع عما تذهب إليه مؤسسة الحكم من قرارات. إلا أنّ الخطب الأخيرة للملك تشبه إلى حدّ كبير فكرة طرحها احمد داوود اوغلو في بداية الألفية الثالثة، ومفادها أن العمق الاستراتيجي لتركيا نابع من كونها جسراً بين أوروبا واسيا قلب أوراسيا . ووجه الشبه يكمن في أنّ فكرة شبيهة بها تقبع خلف إثارة القضايا المذكورة في خطب الملك. فموضوع توزيع الثروة هو أساس الصراع بين الاستراتيجيتين المختلفتين اللتين تتبعهما مراكز الرأسمال إنْ الأورو ـ أميركي أو الآسيوي، بما يعني ضرورة التفكير في اللحاق بمعسكر القوى الصاعدة آسيا ، وإدانة الغرب الاستعماري الأورو ـ أميركي .
ولعل شعور المؤسسة الحاكمة في المغرب بموقع المغرب الذي يجعله جسراً نحو أفريقيا، وبالتالي أهميته في الاستراتيجيات الدولية سواء ذات الصلة بالقوى التقليدية أو الصاعدة، ومن هنا تسعى تلك المؤسسة إلى توفير سلة لترصيد حسابات تلك القوى لا سيما الصاعدة منها. ففي يوم من الأيام سيصبح الحديث عن الديمقراطية في الخليج محورا في السياسة الخارجية الأميركية تجاه آسيا، وبعد ترتيب الوضع في الخليج بما يناسب الانكفاء الحاصل في ميزان القوى لغير صالح الولايات المتحدة، بحيث تخرج الولايات المتحدة بأقلّ الخسائر الممكنة، وذلك تحت عناوين من قبيل تسوية «إسرائيلية» ـ فلسطينية بناء على فلسفة أوسلو، وتسوية أميركية إيرانية، وتسوية أميركية روسية، وما يرتبط بها من تسويات بخصوص قضايا الغاز والطاقة.
في هذه الأثناء سوف تصبح آسيا جاهزة لخوض جولات الصراع في القرن الجاري حول أفريقيا، ومن هنا أهمية المغرب باعتباره المدخل الأساسي إلى هذه القارة الفتية. وفي الحقيقة فقد جرى تدشين ذلك الصراع منذ مدة، بحيث أن هناك حضوراً لافتاً للصين في إفريقيا، وفي المرحلة القادمة ستصبح أهمية أفريقيا في السياسة الدولية مماثلة للأهمية التي اكتستها آسيا والشرق الأوسط ضمنها خلال القرن العشرين. ولذلك نلحظ مواكبة مغربية للتحوّلات الجارية والمقبلة، فلا مناصّ للملكية في المغرب إذا أرادت الصمود في الزمن أكثر من البحث عن حليف جديد يقتنع بأنّ الملكية يمكن أن تكون وكيلاً جيداً في أفريقيا.
معادلة الداخل من جديد
لكن السؤال المطروح بحدة في هذا المضمار، هو ذلك ذو الصلة بمدى حضور أو غياب التوازن في تلك القراءة التي تبنّتها الملكية في المغرب لتحوّلات السياسة الدولية، بحيث انه إذا كان فقط تحويل الاعتماد من الغرب إلى الشرق تبعاً لتحوّل مقود النظام العالمي، إذا كان ذلك فقط هو الهدف المتوخى، والمارد منه الحفاظ على الوجود لوقت أطول. فإنّ المعادلة الداخلية باتت على المحك، ففي السياسة هناك قوة تتحيّن الفرص ممثلة في العدل والإحسان، وفي الاقتصاد هناك قوى صاعدة على صعيد الداخل ويأتي الشعبي ومجموعته في المقدمة، وهي مجموعات طامحة، وترى في احتكار الهولدينغ الملكي للسلطة والاقتصاد عائقاً أمام طموحاتها. والقضية باتت هي ماذا لو تحالف الطرفان ولو بشكل غير معلن لتطويع معادلة الداخل، والالتقاء مع معادلات الخارج؟ لعلّ تجربة 20 شباط/فبراير تشي بإمكانية ذلك التنسيق، فدعم رجال الأعمال لحركة احتجاجية سياسية موجهة ضدّ المحيط الملكي بشكل أساسي مثال على ما يمكن وقوعه. هل من تصوّر مواز لمعادلة جديدة بين هؤلاء وأولئك، وبينهما ملايين المهمّشين ممن يُرسمِل على صمتهم أو تحرّكهم هؤلاء وأولئك؟