أميركا من الحروب العسكرية المتفرّقة الى الحروب العالمية بالأسلحة المالية

د. رائد المصري

إنّها بداية انتظام دولي جديد تطلّب مخاضات عسيرة ودماء غزيرة وحروباً مدمّرة تلقّت معظمها دول وشعوب الشرق الأوسط، لكونها تشكّل الحلقة الأضعف في سلسلة النّظام الرأسمالي العالمي الذي عانى من أزمة بنيوية أقلّه منذ عشر سنوات الى اليوم.. فهل فشل الحروب العسكرية للولايات المتحدة الأميركية عبر العالم قادها لجرّ الدول الى حروب اقتصادية ومالية تشكّل فيها الحلقة الأقوى وتستطيع إخضاع أعدائها وخصومها بما تبقّى لديها من أنياب وأظافر استعمارية متسلّحة بتعويم الدولار عبر العالم…؟

فالمتتبّع لمسار هذا الانتظام أو لنقل هذا المخاض يدرك جيداً أنّ العالم أمام معطيات مختلفة لا تحكمه التحالفات الكلاسيكية المعروفة، حتى ولو بقيت فلسفة الاستعمار وثقافة الاستحواذ على ثروات الشعوب قائمة في النظام الرأسمالي الحرّ، سواء بالقيادة الأوروبية أو بالقيادة الأميركية، وما بينهما من حليف في الشرق الأوسط يسمّى القاعدة العسكرية البحرية الغربية أو حاملة طائراتها على اليابسة الفلسطينية ونعني به الكيان الصهيوني الغاصب.

لا شكّ في أنّ الرئيس ترامب لديه أولوياته التي تعني الداخل الأميركي وهو يسير بخطى مستقيمة في تلبية وتنفيذ برنامجه الانتخابي والذي سيؤهّله حتماً ويكسبه ولاية رئاسية ثانية، بعد أن عبث بأدوات العولمة الاقتصادية التي مكّنت أميركا في حقبة زمنية من الاستفراد في العالم. فتعزيز الحمائية لأميركا والانسحاب من منظّمة التجارة الدولية وخلخلته بنية الحلف الأطلسي وهو الذراع التي فرضت أميركا مشروعها وحواملها الاستعمارية على العالم قاطبة، وضربه كذلك للتحالفات مع الاتحاد الأوروبي الحليف التاريخي والسّند الدائم لأميركا ولمشاريعها، والأزمة الأخيرة مع تركيا ناهيك عن أزماته مع كوريا الشمالية واليابان وعقوباته على روسيا وعلى إيران.

إذن هو أقام خصومة لا بل عداء كلياً مع العالم ومن دون أن يكون لديه البديل أو المشروع الذي يمكن أن ينطلق به وتنطلق معه ومن خلاله منظومة العالم الاقتصادية والمالية، وهو بات كحال العرب فاقداً أيّة رؤية استراتيجية باستثناء ملكيته قوة عملته الدولار عالمياً والمحميّة بقوة الاقتصاد الإنتاجي الأميركي وقدرة الفرد الأميركي على الشّراء والصّرف والإنتاج…

يفرض ترامب وبانفعال عقوبات اقتصادية أحادية على دول كبرى عالميا مسلّماً بعجز الحلف الأطلسي العسكري، وإلاّ لما كان عرضة لسخريته وانتقادات لدول الحلف المنضوية تحت عباءته كألمانيا مثلاً وتركيا مؤخراً، وفرضه عقوبات قوية بما جعل ليرتها تهوي الى القاع، فالرئيس الأميركي يعتبر ويسلّم بالعجز وبمحدودية الدّور العسكري الأميركي منفرداً أو بالحلف الأطلسي، والحروب التي اشتغلت عليها الإدارات الأميركية السابقة أوقعت الميزانية في عجز كبير فاق 4 آلاف مليار دولار كديون مباشرة، ومروحة تحالفاته باتت تشكّل عبئاً إضافياً عليه، لأنّ علاقات تبادل الإنتاج عبر العالم قد تغيّرت، لذلك اتّخذ خصومات عديدة له عبر العالم وقاد أكبر عملية حربية بسلاح المال والاقتصاد منفرداً بطرح العقوبات العشوائية على الدول والشركات والمصارف ومتراجعاً خطوتين للخلف فارضاً الرسوم الجمركية على أوروبا وكندا والصين وكوريا الجنوبية واليابان من باب مبدأ انتهاجه الحمائية التي تبقي الاقتصاد والهيمنة الدولارية قوية عبر العالم.

هذا بدوره أيضاً عزّز منظومة الاصطفاف الدولي وأرسى أولى معالمها بالانفضاض التدريجي لتركيا من الحلف الأطلسي وتقرّبها أكثر فأكثر من روسيا وربّما بأريحية أكثر نحو إيران لكون تركيا خرجت وهو بالمناسبة حق سيادي لها من تحت الطاعة الأميركية لتبدأ البحث عن ذاتها المفقودة أقلّه منذ العام 1924 الى اليوم، فرفضت مسايرة ترامب في عقوباته على إيران لا بل عزّزت تعاونها، ورفضت القرار الأميركي بتهويد القدس وجعلها عاصمة أبدية، واستمرت بمشروع صفقة الـ أس400 الروسية رغم معارضة أميركا لها واستعاضت بها عن صواريخ الباتريوت، ورفضت إطلاق سراح القسّ الأميركي برونسون بالشروط الأميركية، وهي أربعة مواقف أفقدت ترامب أعصابه وقرّر وضع تركيا نصب عين عقوباته وربّما بما لا يقل عن إيران…

والاتحاد الأوروبي أيضاً استعاض عبر سيل الغاز الشمالي وبحر البلطيق من روسيا ليهرب من مقامرات أوكرانيا ومناوراتها التي تمر أنابيب النفط والغاز عبرها الى أوروبا، وتمّ تمديد الخط الثاني لسيل الغاز الجنوبي عبر البحر الأسود وتركيا الى المتوسط فأوروبا… والعمل مستمرّ في تشكيل الحلف الأوراسي الممتدّ من الصين عبر طريق الحرير بفروعه الثلاثة الى الشرق الأوسط وأوروبا، وبالتالي بات العالم الجديد اليوم أمام معطيات اقتصادية جديدة تنقصه قدرة وقوة الإنتاجية ومقدرة الفرد الشرائية حتى تتعزّز التنمية فيها ويصبح الدولار كباقي العملات حول العالم، وساعتئذ تضع الأدوات الاقتصادية رحالها في تكتّلات دولية وتحالفات هي أبعد عن النمط الكلاسيكي المعمول به للحروب، فتكون أقرب للتكامل والتعاون والتبادل أكثر من أن تكون ضمن اصطفافات وتحالفات عسكرية، فهي لم تعد تجدي رغم ما أنفقت عليه أميركا وتحالفاتها عبر العالم…

إنّها الحرب العالمية التي أرادها ترامب بأدوات مالية اقتصادية.. فماذا لو طرحت مثلاً الصين سندات الدين التي تمتلكها بحقّ الولايات المتحدة الأميركية والتي تقدّر قيمتها بحوالي 2700 مليار دولار في الأسواق العالمية بقيمة أدنى من قيمتها الحقيقية لتعويض نقص السيولة…؟ ماذا سيحصل؟ ألن يكون ذلك أقوى وأفعل من رمي قنبلة نووية على مدينة من مدن الولايات المتحدة أميركية..؟ لا بديل إلاّ تعدّد سلّة من العملات العالمية تخفّف من حدّة الدولار وهيمنته. وهذا يتطلّب جهداً وصبراً وتنمية عالية.

أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى