نماذج من سياسات حريرية مؤذية للبنانيين!
د. وفيق إبراهيم
المستهدفون هنا هم كامل اللبنانيين بتنوّعاتهم المذهبية والطبقية والعرفية من دون فارق بين سنّة وشيعة ومسيحيين ودروز.
فالمعروف أنّ لبنان التاريخي منذ استقلاله في 1948، ارتبط بعلاقات خارجية فتحت لأبنائه ميادين عمل واسعة غطت على عجزه في تأمين مصادر العيش للناس، بناء عليه التزم لبنان سياسات مرنة مع كامل محيطه، قد يجنح لواحدة على حساب أخرى، إنما من دون التسبب بعداءات عميقة.
فأيّد الخليج السعودي مناصراً سورية ومهللاً لمصر ومعانقاً الأردن ومرحباً بالعراق. وذلك للزوم الحاجة إلى السُياح العرب والاقتصاد الخليجي، والسياسة المصرية وطرق المواصلات السورية التي تربطه بالخليج والعراق.. يكفي القول إنّ هذه السياسات وفّرت للبنان نحو مئة ألف عراقي كانوا يأتون للاصطياف فيه هرباً من حرّ بلادهم. وكان عدد أكبر من الخليجيين يتوافد إليه طيلة العام.
هذا لم يمنع رحيل ملايين اللبنانيين إلى أصقاع الأرض للعمل في مختلف المجالات، معاودين ضخ قسم كبير من رواتبهم إلى أهلهم في لبنان.. واحدة من هذه الدول هي كندا التي نزح إليها نحو مئة وخمسين ألف لبناني، اكتسب قسم منهم جنسيتها.. وهناك مَن ينتظر، القاسم المشترك بينهم هو استمرارهم في تحويل قسم من ناتجهم إلى بلدهم الأم. للإشارة فإن هؤلاء اللبنانيين ينتمون إلى المذاهب الدينية كافة، وفي مقدمها السّنة الذين نزحوا من أريافهم للعمل في درجات حرارة هي الأدنى من نوعها، ونجحوا.. بماذا ساندهم رئيس حكومتهم المكلف سعد الحريري للتخفيف من معاناتهم؟ هاجم الحكومة الكندية لأنها تجرأت على السؤال عن حقوق الإنسان في السعودية، فأساء بذلك إلى اللبنانيين العاملين في كندا، والطامحين بالهجرة إليها، ومن دون أي مقابل للبنان. فإسناده للسعودية لن يعدّل الميزان لمصلحة الرياض.. ولا ينفع لبنان وأهله بقدر ما يسيء إليهم ويُضرُ بالمهاجرين.. قد تتسامح حكومة كندا، ولا تختلق ردود فعل على «الطريقة العربية» الثأرية، لكنها لا تستطيع منع تشكل شعور بالنقمة من الكنديين الأصليين. وهذا حدث في كندا وبلدان أخرى في مراحل مختلفة تضرّر منها المهاجرون.
..ومن أجل السعودية أيضاً، يسترسل الحريري في شن هجمات على سورية الدولة.. مشجّعاً «بيئات إسلاموية» لبنانية على استهداف دمشق، وموفراً الظروف لتأجيج الصراع المذهبي في لبنان، على قاعدة أنّ الشيعة «مجوس» وحزب الله تنظيم إيراني.
..بالتدقيق يتبيّن أنّ هذه السياسات تذهب نحو أمرين: تأييد المحور الأميركي ـ السعودي، الذي يعتبر «إسرائيل» ركنه الثالث. وتأجيج الوضع الداخلي فما مصلحة اللبنانيين في سياسات حريرية معادية للشام تؤدي إلى «إقفال دمشق حدودها» هذه المرة مع بيروت والشمال. وليس العكس فليدقق الرئيس الحريري بانتماءات عشرات آلاف اللبنانيين العاملين في الخدمات والترانزيت والأعمال التجارية مع الشام حتى يُصفق من هول المفاجأة.
فأهل المدن الكبرى من الشمال إلى العاصمة هم الأكثر ارتباطاً بالتجارة مع سورية.. ولن يتأخر أيضاً بالاكتشاف أنّ المواصلات السورية هي التي توفّر القسم الأكبر للبنان من موارده الأساسية.
ولا يمكن هنا تجاهل أهمية الخليج الذي كان لبنان منتجعه ومضيفه ومكان الراحة الدائم له. هذه العوامل تفرض على الرئيس المكلف التزام النأي الفعلي بلبنان عن الصراع الإقليمي بين السعودية وسورية وإيران.. فكانت النتيجة أنه فهِم هذا النأي على أساس الهجوم الدائم على سورية وإيران وكَيْل المديح للسعودية وولي عهدها محمد بن سلمان.. وكما اتضح أخيراً لأن الحريري يريد إرضاء آل سعود للبقاء في رئاسة الحكومة من خلال زعامته على السّنة لاعتقاده أنهم موالون للرياض. فهل نسي الحريري أنّ اللبنانيين هم الذين انتخبوه نائباً عن مدينة بيروت، ويتجاهل أنّ النواب الذين كلفوه هم نحو مئة وعشرين نائباً يمثلون كامل اللبنانيين.
هناك نموذج آخر عن سياساته المسيئة للبنان، الذي يستضيف نحو مليوني سوري. قالت جريدة «اللوموند ديبلوماتيك» الموالية للسياسة الفرنسية المعادية للدولة السورية، إنّ الإرهاب السوري هجرهم من أراضيهم وأفقرهم، معيداً تنظيمهم في ألويته بأرخص الأسعار مئتا دولار شهرياً للمقاتل ، وبما أنّ الدولة السورية حرّرت قسماً كبيراً من أراضيها، فقد أصبحت الفرصة ملائمة لعودة القسم الأكبر منهم إلى بلادهم.. فهذا ما دفع بالأردن إلى الموافقة الفورية، وكذلك المانيا وبعض دول الاتحاد الأوروبي.. وجرى توكيل روسيا لتنظيم هذه المسألة.
لكن الحريري منفرداً يطلق تصريحات تعرقل عودتهم بالتنسيق مع بعض الجهات الأميركية والأممية والسعودية. هنا يحق للجميع أنّ يسألوا عن المستفيد من هذه السياسة الحريرية تجاه النازحين.. فهل أهل المدن مرتاحون من الأكلاف الاقتصادية المرتفعة التي يعانون منها جراء هذا العدد الكبير من النازحين في بلد شبه منهار اقتصادياً، ديونه مئة مليار، وتنقصه الكهرباء والمياه والبنى التحتية والأعمال والأمن، والاستثمار في وظائف جديدة.
لذلك يبدو الحريري منفذاً سياسات دولية وإقليمية ليست لمصلحة اللبنانيين، وأولهم أهل المدن والأرياف من كل المذاهب والطوائف، وهي سياسات يريد منها إرضاء ولي الأمر السعودي والأميركي على حساب مصلحة اللبنانيين.
والدليل أنّ بعض إمارات الخليج ودول الاتحاد الأوروبي والشركات الأميركية والروسية، تبحث عن دور اقتصادي لها في إعادة إعمار سورية والعراق، إلا أنّ الرئيس المكلف لا يأبه لمصالح اللبنانيين، الذين هم أصحاب الحق في المشاركة بإعادة الاعمار، ولأن لا اقتصاد من دون سياسة، يجوز لكل اللبنانيين أنّ يضعوا اتجاهات الحريري في موقع المستسلم لمصالح الخارج وطموحاته السياسية على حساب كامل اللبنانيين، فلا أحد من هؤلاء يطلب منه تأييد إيران، ولا محاباة سورية على حساب الخليج، لكنهم يريدون منه سياسات لا تقطع فتبدو آلية من آليات الإرهاب ويخشى مراقبون من تحوّله نحو لبنان مستفيداً من مناخات التشنج الطائفي والمذهبي التي يطلقها الحريري واضعاً البلاد على كف عفريت الانهيار الاقتصادي ولو بالحروب الطائفية.