حنا مينه: أدبي جدير بأرفع الجوائز العالمية لأنّه حصيلة معاناة ومغامرة وتحدٍّ

قبيل رحيل شيخ الروائيين، وعلم أدب البحر، وأحد أبرز مؤسسي اتحاد الكتاب العرب في دمشق، الأديب السوري حنا مينه، كانت فرصة فريدة للصحافي عامر فؤاد عامر للقاء مينه ، ليقبس لنا بعض الحب والوهج السعادة والدموع والفرح عناقاً، وإذ حاول تغطية عاطفيته المفرطة بأن «الدموع مرض العجائز»، لكنه كان فرحاً أن يطل واحد معجبيه الذين لا يعرف حشوده، ولم تتوفر لهم فرصة لقائه.

مقابلة خصّ بها الصحافي عامر عامر «البناء»، لتبقى شاهداً وشهادة.. علّ أنا ينال الكبار حقوقهم كفاية في مقبل الأيام.. هنا نص الحوار..

عامر فؤاد عامر / دمشق

في وصيته الأخيرة كتب شيخ الروائيين حنا مينه: «أنه يخشى ألا يموت، وأنه منذورٌ للشقاء منذ أبصرت عيناه النور، لكنه انتصر عليه. وأوصى ألا يُذاع خبر مماته في أية وسيلة إعلاميّة منعاً للتحسّر عليه، مذكراً أن هدفه في الحياة كان واحداً يتجلّى في نصرة الفقير. كما أنه أوصى بمنع مظاهر الحزن والتعبير عنها وشكلانيّاتها…». يبدو أن أحداً منا لم يلتزم بهذا الجزء من الوصية، فهو شيخ الروائيين العرب والمتربّع على هرم الرواية.

هذه الوصيّة حملت تنبيهاً ونبوءةً في آنٍ معاً فهو لم يعد يخشَ الموت! وقد أربكني الدمع الذي رأيته في عينيه، فقرّرت أن أداعبه بسؤالٍ استكمالاً للمنطق الذي طرحه في الوصيّة، فقلتُ له وبمناسبة لقائنا: «بماذا توصيني اليوم بعد أن كتبت وصيتك؟»، فأجابني مؤكداً: «عندما أموت، قلّ للناس لا تبكوا عليه، بل قولوا الله يرحمه، لقد عانى كثيراً في حياته، وتعذّب».

استقبلني في ذلك اليوم بدموع كثيرة، ذرفها لحظة استقبالنا على الباب، لم نعرف كلانا أنا والمصوّر صلاة ملوحي ما تفسيرها! كنتُ متشوّقاً للقاء الأديب الذي علّقني بعالم مطالعة الكتب وعشقها. فأوّل كتابٍ قرأته كان رواية «المصابيح الزرق»، وتعلّقت بعدها باقتناء وإنجاز الكتب على أصنافها، لكني حلمتُ دوماً بلقاء من علّقني بذلك والتعرّف إليه، وهو الأديب الكبير حنا مينه، وفور فتحه لباب بيته غمرته بكلّ حبٍّ وامتنان وفرح، وقبّلت رأسه، بعدها قال لي: «ما الذي فعلته بي حتى انهمرت دموعي فجأة هكذا». كان مينه في تلك الفترة على انتصارٍ مع مرضه الذي قدّره الطبّ بأنه شلل لن يتمكن بعده من الحراك، لكن طاقة التحدّي لديه جعلته الإنسان الذي لا يقف أمامه شيءٌ ليوهن قواه. فقد شرح لي أثناء اللقاء أنه كان يدرّب عضلات جسمه ويحركها واحدةً تلو الأخرى مستعداً ليومٍ تمكن فيه من النهوض مجدداً والمشي ومزاولة النشاطات كافة، وهذا ما جعله يُقبلُ على باب بيته ليفتح بابه ويستقبل زائريه بنفسه. يضيف أيضاً أنه لطالما أكد لزوجته على فكرة أن الجسد البشري يُمكن التحكم فيه ولا يمكن تسليمه للمرض مهما كان شديداً، وهو بذلك كان يشجّعها كي تتغلب على مرضها الذي أتعبها وسيطر على جسمها.

في حضرة الروائي الكبير

يشبه البيت الذي يقطنه الروائي حنا مينه وجهه تماماً. على سطح الخزانة تراكمت حُزم الأوراق ومشاريع روائيّة، وهناك أكداسٌ من الأوراق والكتب المُغلّفة بالنايلون، وهنا يحضر في بالي السؤال: أما زال لدى الأديب حنا مينه المقدرة على تنظيم أوراقه، وفردها، وجمع معلوماتٍ سجّلها عبر سنواته التسعين، ومَن هو الشخص الذي يتمكّن من احتواء هذا الكم كلّه من الأوراق، والقصاصات الورقيّة والدفاتر والكتب، هل هناك مَن يساعده أم أن صديقاً يأتي ليرتب له هذه الأمور، التي يريدها، ويناوله ما يحتاجه منها، ومن معلوماتها؟!

وفي هذه الأثناء، طرقٌ على الباب، وكان أبو أحمد الشخص الذي يأتي لمساعدة الأستاذ حنا مينه في بيته، الذي جاء ليقدّم واجب الضيافة لنا، ويهتم بشؤون البيت، وبعد أن قدّم لنا القهوة والماء البارد، قال لنا الاستاذ مينه: «الدموع مرض العجائز، فقد قاربت التسعين، ويوم البارحة تعبتُ كثيراً، وكان صديقي أبو أحمد موجوداً، ولم يتركني لأنه خاف عليّ، لكنني أجبرته على الذهاب إلى بيته. فأنا أريد أن أواجه الموت وحيداً، وبقوّةٍ دون خوف، ثمّ مضت الساعات الواحدة تلو الأخرى، وبزغت أنوار الشمس من جديد، ولم أمُت». وكانت نهاية حديثه مرفقة بضحكة كبيرة وعالية، تلتها ضحكاتي أنا والمصوّر. ثمّ نظر إليّ من جديد، وقال: «وجوهكم مضيئة، فأنا مسرور بوجودكم، لربما الله أطال في عمري يوماً واحداً لأراكم. ويتابع حديثه لنا فيضيف: «كثيرٌ من الأشخاص ساهمت في دعمهم، ليصبحوا اليوم في مناصب يتبوؤنها، يتصلون بي ويعدون بزيارتي، لكن تمضي الأيام من دون أن يأتوا للزيارة… لقد كان هذا العام صعباً جداً عليّ، ففيه توفيت زوجتي، وأختي، وذهبت إلى اللاذقيّة، وأمضيت الحزن هناك في كلّ مرّة، لقد قدّمت هذه السنة ضرباتٍ قاسيةٍ لي».

قانون «مينه» والفرصة الأولى

تحتوي قسماتُ الوجه على تفاصيل كثيرة، سحنته تحمل اللطف والقسوة معاً، كما أن روح الدعابة لا تغيب في حديثه مهما كان الموضوع يُوحي بالتعب. تلك الإيحاءات جعلتني أوجّه له ملاحظتي لاستشفّ رأيه حول إمكانيّة وجود الحظ في حياته كأديبٍ حُفر اسمه في الذاكرة، وكان تعليقه: «أنا أؤمن بالحظ دوماً، لكن أشجّع السعي، فبوجود الحظ والسعي سيمتلك المرء بناءً صقيلاً. لكن بالنسبة لي شخصيّاً وبما أؤمن فيه، فأقول إنني أؤمن بالمرّة الأولى والفرصة الأولى. وهذا ينطبق حتى على صعيد المرأة ولقائي فيها، فالتقيها مرّة واحدة، وكثيراً ما ناحت النساء وبكت، ليكون هناك موعد آخر، لكنني أرفض دائماً. وهذا عندي مبدأ وقانون، فالحياة عرضٌ واحدٌ، ويبدو أن هذا هو سبب نجاحي». ثم يشير لي أيضاً إلى أن لقائي به هو بمثابة مرّة أولى، وفرصة أولى، ولولا الارتياح الذي لمسه وشعر به لما كان هناك كل هذا الحديث والنقاش بيننا.

تتوسّط صدر البيت لوحة يستدرك الناظر إليها أنها من روح الثقافة الصينية، وتبعاً لحجمها الكبير وألوانها المثيرة بقيتُ متأملاً فيها برهةً ليأتي الحواب من صاحبها، وأقصد الأديب مينه، حيث قال باعتزازٍ: «هذه من قادة الحزب الشيوعي الصيني، وعليها ختمان، كلّ ختمٍ يدلّ أنها عاشت فترة طويلة من الزمن مع أسرةٍ صينيّةٍ ذات تاريخٍ مغرقٍ في القدم، أمّا عمرها اليوم فهو بين 400 إلى 500 عام. غالباً هي تعود إلى أسرة تشينغ حاكمة الصين منذ 1644 إلى بداية القرن العشرين. عموماً، الصينيون عنيدون جداً، ومتمسكون بما يتعلق بأسرة تشينغ، التي تعني لهم الكثير. ومن الممنوع التفريط أو التداول بأغراض تلك العائلة خارج الصين، لكنني جلبتها معي بالقوّة». يتحدّث باعتداد، مشيراً إلى أنه عنيدٌ جداً في الموضوع الذي يريد تحقيقه، ملمحاً بفخر أنه أكثر صلابة وعناداً حتى من الصينيين أنفسهم.

نوبل للآداب

يخطر لي السؤال عن رأيه في ما قاله عنه الروائي الشهير نجيب محفوظ، الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1988، بعد علمه بأن الروائي حنا مينه قد ترشّح لنيل هذه الجائزة مع نهاية تسعينيات القرن الماضي، فقد ذكرت الصحافة العربيّة بأن محفوظ علّق بأن مينه يستحق نيلها فعلاً. لكن الروائي حنا مينه يشير إلى أن نتاجه الروائي وتجربته الذاتيّة في عالم الرواية أغنى مما أنتجه عالم نجيب محفوظ، الذي لم يتعدّ في تنقلاته بين الاسكندريّة والقاهرة. فكانت حياته مقتصرةً على تلك البقعة الجغرافيّة فقط، بينما هو سافر وأبحر في مياه الأطلسي والمتوسط، وجابه أخطاراً كثيرة، كربانٍ مغامر في بقاع كثيرة من الأرض. تشرّد وواجه وعانى، وعاد بزوادة من الخبرة والتجربة الكبيرة، ومساحته الجغرافية تلك، منحته روح المغامرة والغنى، فكانت كتاباته متنوعةً أكثر. فها هو يردّد بعيون دامعة : «اشتغلت حلاقاً، وعملت أجيراً في مهنٍ عدّة، وكنت بحاراً، أبحرتُ في المحيط الأطلسي ناهيك عن البحر المتوسط، لقد تغربّت كثيراً، وأكلت الغربة مني».

الخطأ وشكله

ما هي ملاحظاته حول الخطأ وتراكمه لدينا، وأين مكمن الخطأ في الشخصيّة السوريّة والعربيّة عموماً، كانت هذه الفكرة التي انتقلت إليها لمعرفة رأيه فيها، وكان تعليقه: «لا يغرّك أن هناك حملة شهاداتٍ عليا، ودكاترة اختصاص يتبوؤن المناصب، فهم لديهم أخطاء كبيرة، لكن المشكلة لدينا أننا لا نبدأ بإصلاح الأخطاء الصغيرة، والتي هي الأهمّ على الإطلاق برأيي، لأننا إذا تركنا هذه الأخطاء الصغيرة عندها سيكون لدينا قمة كبيرة من الخطأ، والتي يصعب علينا تجاوزها مع مرور الوقت».

المرأة الأديبة

تجتهد الأديبة في سورية لتقدّم مُنجزها الثقافي، ويشجّع مينه هذا الحضور، وقد استغرقنا الحديث معاً عن هذا الجانب، لا سيّما أن المرأة حاضرة بقوة كمحورٍ فاعل في كل الأعمال الأدبيّة لديه، ومن حديثه أقتطف بما يتعلقُ بالأدب النسوي: «أشجّعهن وأريد أن يكون لهنّ إنتاجٌ أكثر، فلتكتب قدر ما تستطيع وعليها أن تتخذ هذا الطريق بجديّة أكبر مما هو عليه الآن، وقد أعجبني ما تكتبه الأديبة مادلين إسبر وأشجّعها أن تزيد من عطائها، فلديها المقدرة الأدبيّة. والمرأة في مجتمعنا من حقها أن تجرّب وأن تتذوّق وأن تعرف عوالم أخرى غير عوالم بيتها وزوجها، وكذلك الرجل، لكن الرجل في مجتمعنا يستهلك نساء كثيرات، في حين المرأة تحمل الأولاد، وتنجب، وتتألّم، ويصيبها الكثير من الإرهاق والتعب، وعلينا أن نوازن هذه المعادلة في مجتمعنا فننجح». ويتابع مينه مستغرقاً أكثر في وصفه المرأة: «هي قضيّة أدبي كما البحر، فيها التجلّي والاحترام والجرأة والخصوصيّة، والجدارة بأن تعيش وتبني».

أعمال السينما والتلفزيون

يقودنا الحديث طواعية للعمل الروائي الجميل «نهاية رجل شجاع» التي تُعدُّ قفزةً نوعيّةً للدّراما السوريّة، بعد أن تمّ تحويلها مسلسلاً تلفزيونياً حمل الاسم نفسه، للسيناريست «حسن م. يوسف» والمخرج «نجدت إسماعيل أنزور»، ولا شكّ في أن قوّة الرواية وأهميتها شكّلتا عنصراً بارزاً في أهميّة نجاح المسلسل وشهرته الكبيرة، وكان لا بدّ لنا من التطرّق لهذه التجربة الجميلة، وعنها تحدّث الأديب مينه: «صنعتْ هذه الرواية المُحوّلة مسلسلاً تلفزيونياً من أبطالها نجوماً في عالم الدراما، مثل: أيمن زيدان، والكثيرين، ومن بينهم ابني سعد مينه الذي كان شابّاً صغيراً حينها، وما أذكره الآن وما لفتني كثيراً هو مشهد كيفيّة قطع ذيل الحمار، فقد خدّروا الحمار كي لا يشعر بالألم ويؤذي من حوله، وقد كان مشهداً جميلاً أثناء تنفيذه، اجتهدوا في بنائه كثيراً وقد داووا الحمار بالكحول بعد قطع ذيله، ومنحوا صاحبه المال تعويضاً». كان يصف كلّ ذلك بمحبّة وفرح وسعادة ويقول بين كلّ جملة وأخرى: «الله يرضى عليك يا سعد»، ثمّ تابع: «كتبت الصحافة المصريّة عن مسلسل «نهاية رجل شجاع» أكثر مما كتبت السوريّة، وقد عُرض المسلسل في مصر مرتين، ومن المعروف عن المصريين سابقاً، أنهم لا يعرضون سوى المسلسلات المصريّة فقط».

تكررت التجربة من جديد في اتخاذ رواية أخرى من روايات حنا مينه لتكون مسلسلاً تلفزيونيّاً في مسلسل «المصابيح الزرق» عن الرواية نفسها وكانت من إخراج فهد ميري. لكن في السينما السوريّة الأمر كان مغايراً فقد تعددت التجربة السينمائيّة مع رواية «مينه» في إطار تحويل الرواية فيلماً سينمائياً طويلاً، وكانت التجربة الأولى مع فيلم «اليازرلي» 1974 للمخرج «قيس الزبيدي» المُعتمد على قصّة «أكياس الرمل» ضمن مجموعة «الأبنوسة البيضاء». ثم جاء فيلما «الشمس في يوم غائم» 1985 و«آه يا بحر» 1993 للمخرج محمد شاهين المأخوذان عن أشهر رواياته «الشمس في يوم غائم» و«الدقل»، وفيلم «بقايا صور» 1999 للمخرج نبيل المالح لرواية بالاسم نفسه أيضاً، وآخر التجارب كانت «الشراع والعاصفة» 2014 للمخرج «غسان شميط» أيضاً عن رواية تحمل الاسم نفسه.

توقيع

مرّ الوقت سريعاً في حضرته، فقامة كبيرة من قامات الأدب الإنساني كانت تختصر مشاهد مهمّة من حياتها، وآذاني صاغية لأي همسة ولفتة منه ولحديثه متأملاً حركاته ومغتبطاً بذلك اللقاء الجميل.

طلبت في نهاية زيارتنا منه أن يترك لي توقيعه على أحد الكتب التي اقتنيتها، والتي تضمّنت جزءاً من مسيرته الأدبيّة وعدداً من الحوارات الصحافيّة، جاء الكتاب بعنوان «حنا مينة حارس الشقاء والأمل» للكاتب «نذير جعفر»، فأخذ الكتاب مني وتفحصه جيداً، وكأنه يراه للمرّة الأولى، ثم قال مستفسراً، مَن طبعه؟! فقلت: هو من منشورات دمشق عاصمة للثقافة العربيّة 2008 فردّ عليّ: «لم يقل لي أحد عن طباعة هذا الكتاب». ثمّ كتب على الصفحة الأولى منه: «الصديق عامر عامر … خذّ الدنيا غلابا … مع تحيات حنا مينه».

ثم قرأ الكلمات بصوتٍ عالٍ موجّهاً الكلام إليّ، ونغمة الصوت يكتنفها الكثير من السعادة والأمل. بعد ذلك التقط المصوّر بعض الصور التذكاريّة لنا معاً، لتنتهي هذه الرحلة التي اختزنت عديداً من الصور، والكلمات، والأحاديث، والنصائح، احتفظت بها في ذاكرتي وحفظتها، لأنقل منها ما يناسب لكم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى