من «مقام الوطن العالي» المروية الجديدة!
طلال مرتضى
رزمت كتبي وبدلة الفتوة الكاكي الجديدة وهممت أعبّ الشوارع من غير دراية، مثل قارب تجاذبته ريح ناعسة فانساق أسيراً لرتم لحنها..
من لم يسلم قياد روحه لشارع دمشقي، لا يعرف متعة المشي. في شوارع المدينة العتيقة لا ترسم خط سيرك مسبقاً، فقط خذ البلاطة الأولى من كل شارع مرصوف وسرّ على النسق ذاته، أترك لعينيك الغرق في الشاهدات، أترك لخياشيمك حرية استلاب الشهيق من دون تركيز، دع قلبك يرنم نبضاته على ترانيم صدح معزوفات الباعة الجوالين وإلحاحهم بأن تشتري منهم شيئاً، سرّ من دون هدي، كضائع لا تودّ إيجاد ما تبحث عنه..
سِرْ كما أنت، لا ضيرَ فالمدينة العتيقة لا يضيع بين حواريها عابر شوق، لا تنظر إلى ساعتك متوهّلاً، خوف أن يفوتك موعد الصلاة، أبداً هذا الأمر تم تجاوزه في دمشق بعناية يمكن أن تدلف بروحك متخففاً من إحدى بوابات الجامع الأموي الكبير والمشرّعة على مدّ الوقت لتؤدي كل فروضك، أو تدخل من على يسار مقهى النوفرة بهو كنيسة «المريمية» لا ضير إن كسرت رتم سكونها بوصولك.. صٓلِّ حيث تريد..
هذه المدينة مكتظة تماماً حد التنسك «بالله وملائكته وكتبه ورسله»، وحيث تولي وجهك ثمّة وجه الله. غرقت في صمت بارد دافئ الحواس، لكن كفّ رخيمة أدارت عن قصد مجذاف الحكاية نحو ضفة الكلام.
يمكنك الدخول… مر وقت طويل على وقوفك عند الباب.
الكف التي ربتت كتفي تواً صارت منارة وقت دفعتني بالسير نحو هالة الضوء الخافت في آخر الرواق.
عن سابق قصد تجاهلت المسيح المصلوب على خشبة أوجاعنا كفدية أبدية لآثام البشرية وشرورها، كانت وجهتي نحو ملاك صغير تحمله أجنحة رهيفة وأمه المجدلية تحتفي بخراف دعجاء..
سلام عليك يا مجدلية، قلتها في سري، لكنني لم أستطع بلع كلمة «آمين» بعدما انتهيت من قراءة الفاتحة على روحيهما.
خادم المريمية الذي احتفى بي، لم أكن أتلمس وجوده كبشري مثلي يقف إلى جواري، كنتُ أتحسّس حضوره من عطره الذي دهمني وقت هممت الدخول..
حين أمّنت الفاتحة بـ»أمين» رأيته يكاتفني تماماً حد الالتصاق، لم ينبس ببنت حرف، لكنّه مدّ يده نحوي ليهديني شمعة يتيمة..
لا أدري كيف تجرأت حينها ونظرت في عيون الرجل، كنتُ أعد ذلك وقاحة مني، لكنني لم أندم ولن أندم أبداً، ما قد رأيته في عيون الرجل من أمان، يكفي ليعيش العالم وينام كله بطمأنينة، ولم لا.. تساءلت.. وهذا المصلوب على خطايانا يدفع كل حين فواتير معصيتنا؟!..
هممت بالخروج بعدما ذخرت روحي بزاد وفير حد الامتلاء، وأنا أغادر المكان همس الرجل بأذني كلمات قد سمعتها قبلاً: سر يا ولدي على هدي روحك.. أنها المشيئة قد كتبت سلفاً.. وتلك الشمعة التي أشعلتها هي عربون عودة.. من المؤكد بأنك ستكون هنا ذات مرة.
لم أكن لأنظر إلى الوراء بعدما تجاوزت «باب الجابية»، لكن منظر مياه الفيجة الباردة أغواني «سبيل الفيجة» ، فأدخلت رأسي ليغدق عليه الماء.. ثم نهلت منه ما استطعت.
وجدتني أستفيق من غيبوبة أو حلم جميل وددتُ ألاّ ينتهي. قلت هاجساً في روحي، ما كان عليّ وضع رأسي تحت منهل الماء، ليتني بقيت هائماً على هديي دون بوصلة..
تزوّدت بلفافة «فشافش» غارقة في سيل الشحم، لم يكن بائعها يحتاج لدليل، فرائحة الشواء تجلب الزبائن من بعيد، على غير موعد.
توقفت عند المدخل الكبير لكاراج المسافرين مثل غريب تخاتل حنجرته غصة لئيمة، ذابت في أغوار عيونه مقاماً من دموع، لكنه الكبر والعند اللعين منعني من ذرفها في وقتها، لم أندم يوماً على شيء مثلما ندمت بأنني لم أطلق سراح تلك الدمعات، كم لمت نفسي على هذا، لا أدري.. وأنا أستعيد الصورة في الذاكرة.. رددت معي، كان الأمر يستحق بعضاً من دموع، لا ضير في تلك اللحظة أياً تكن ملوحتها في المقل، فلقاء «خان السنابل» المرصودة من جديد بعد ساعات عدة يستحق اللطم أيضاً والدموع وحدها كجوقة لا تكفي.
مثل قدر مكتوب وقف الرجل في وجهي كالطود، لم يترك لي فرصة التزحزح يميناً أوشمالاً، وكأني به يريدني التسليم إليه عنوة، كان عليَّ عبوره دون اكتراث، لكنه شل كل مفاصلي وحواسي دفعة واحدة حين قال بلهجته المحببة:
بيروت.. طالع ع بيروت؟
«شو يعني بيروت»؟
«بعد عندي مكان لراكب.. مش طالع ع بيروت»؟
أديه الأجرة لبيروت.
75 ليرة.
في تلك الأثناء كانت أصابعي تنهل ما بجيبي من نقود، وتضعها كأمانة في كف الرجل من دون أي تفكير..
توقف كل شيء هنا، جل ما أذكره أنني دلفت إلى سيارة «البويك» اللبنانية العريضة والتي انطلقت للتوّ.
كاتب سوري/ فيينا