لماذا جبهة النصرة في حماية «الكيماوي الأميركي» المزعوم؟
د. وفيق إبراهيم
تسيطر جبهة النصرة المشتقة من تنظيم القاعدة، مع تنظيمات أممية إرهابية أخرى موالية لتركيا، على منطقة إدلب شمال سورية، وعندما بدأ الجيش العربي السوري منذ أسبوعين بالتحضير لتحريرها، وباشر الطرف الروسي الضامن مفاوضات مع المسؤولين الأتراك لتوفير المناخ الإقليمي المناسب، ارتفع صراخ أميركي مدعوم بأبواق أوروبية وخليجية، يزعم أن الجيش السوري يحضّر لهجوم كيماوي على إدلب، مترافقاً مع معلومات روسية سرعان ما كشفت أن الأميركيين والبريطانيين بالتنسيق مع أصحاب الخوذات البيض، يحضّرون لـ«فبركة» فيلم بالألوان عن هجوم سوري مزعوم بـ»الكيماوي» يستهدف مسبقاً أطفالاً ونساءً وعجزةً.. ما يستدعي هجوماً أميركياً بريطانياً فرنسياً بالصواريخ على مواقع للجيش السوري على جاري العادة.
فالسيناريو موضوع مسبقاً وجرى قبلاً تطبيق أفلام مماثلة له في عشرات المناطق السورية. هكذا بدأ الغرب بإعداد مستلزماته ميدانياً في إدلب بالتعاون بين فروع من مخابرات أميركية وبريطانية والخوذات البيض والمعارضات في إدلب. وتبدو رائحة التآمر في الاستدعاء المسبق لأساطيل عسكرية أميركية ومقاتلات بريطانية وفرنسية تتحضّر ليوم «الفبركة الموعود» في بحر الخليج، حيث وصلت فعلاً بارجة أميركية تنقل 56 صاروخاً وكذلك وصول قوات إلى مطارات في الأردن والعراق وقبرص والسعودية ملأى برائحة الموت والفبركة، لمنع الانهيار الكامل للدور السياسي الأميركي وبالتالي الغربي.
إنما لماذا هذا الاهتمام الأميركي الكبير بإدلب وهو اهتمام يصل حدود تفجير التفاهمات الروسية الأميركية، مع ما يعنيه من احتمالات الصدام المباشر بين الفريقين في ميادين سورية؟
إن عملية التخطيط الأميركي الكيماوي في إدلب والتحضير لشنّ هجمات محتملة السوري توحي بأنها محاولة لردع مسبق لتحرير إدلب. فهذه العودة الإدلبية المرتقبة إلى سيادة دولتها لا تعني إلا المزيد من تأزيم الهيمنة الأميركية المأزومة أصلاً.. وخصوصاً بعد تحرير كامل الجنوب السوري، وحصر الأميركيين في بؤرة صغيرة في قاعدة التنف المتاخمة لحدود سورية مع العراق والأردن وعلى مقربة من بؤرة لا يزال «داعش» يسيطر عليها داخل سورية.
ما يمكن استنتاجه يبدأ بالربط المنطقي بين تحرير إدلب والتهديدات الأميركية حول «الكيماوي المزعوم» وترجمته الواضحة أن واشنطن لا تريد تحرير إدلب وتستعمل الكيماوي لإيقاف الهجوم والتفاوض معها حوله..
وما يؤكد هذا التحليل هو تطور ومكانة الدولة السورية المنتصرة والمسيطرة على 80 من أراضيها. وطالما هي في وضعية المنتصر المرتاح على وضعه، فلماذا تلجأ إلى الكيماوي على فرضية وجوده لديها، وهو لم يعد أصلاً موجوداً لديها، حيث تأكيدات الوكالة الدولية المعنية وروسيا. كما أن التحقيقات التي أجرتها الأمم المتحدة في أكثر من منطقة زعم الغربيون سابقاً أن الجيش السوري استعمل فيها أسلحة كيماوية، لكن تبين عدم صحتها، لذلك يتوجب نزع «طاقية الإخفاء» عن الأهداف الحقيقية الأميركية في معركة إدلب. فهم لا يريدون لها أن تحصل.. فيما يحاولون إرباك الطرف التركي الذي يتفاوض حالياً مع الروس.
فأنقرة لديها مصلحة مزدوجة في إدلب: أولاً إعادة الربط السياسية مع حكومة دمشق عبر تنشيط أنصارها السوريين من التركمان والإخوان المسلمين في البنى السياسية والدستورية السورية. أما الهدف الثاني فهو نقل حرب الجيش السوري في غرب بلاده وشمالها إلى الشرق الذي يحتله الأميركيون بلبوس كردي.
فتصبح المواجهة أميركية غربية كردية من جهة، مقابل الجيش السوري والإيرانيين والروس والمقاومة من جهة ثانية.. وهذا حلم يراود الأتراك، لأنه يحشر الأميركيين الذين استهدفوهم في طموحاتهم العثمانية والإخوانية ونالوا منها، ويشنون عليهم حالياً حرباً اقتصادية يعاني اقتصاد أنقرة ضراوتها.
يبدو إذاً، أن لأنقرة مصلحة في دفع الصراع لتصبح سورية في وجه واشنطن المتسربلة بالجلباب الكردي. وهذا ما يعمل الأميركيون على تجنّبه بعرقلة تحرير إدلب.
ويضعهم في مواجهة سورية تركية وروسية وإيرانية تعمل على التنسيق لتوفير التغطيات الدولية والإقليمية للجيش السوري وحلفائه.
لذلك يستجمع الأميركيون طاقاتهم لمعرفتهم بأن إدلب تعني دورهم في الإقليم.. فتأخذ عراقيلهم أشكالاً سياسية ودستورية وكيماوية وعسكرية.
فالسياسة عندهم هي فن خدمة الجيوبولتيك الخاص بهم الذي لا ينفك يتراجع مقابل صعود روسي، سوري، إيراني وتفلت تركي من هيمنتهم، ويسجلون ذعرهم من إمكانية حدوث توافق روسي تركي لا يرحّب الأميركيون به مطلقاً لأنه يؤدي إلى إنتاج انسجام بين الدولة السورية والمعارضة على دستور جديد بمعزل عن التأثير الأميركي السعودي، ومسهّلاً بذلك عودة قسم كبير من النازحين من تركيا والأردن ولبنان إلى بلدهم بما يعنيه من تجديد لرئاسة الرئيس بشار الأسد ونظامه السياسي مع التعديلات التي قد تلحظها الاتفاقات الدستورية الجديدة.
هناك أسباب أميركية إضافية تتعلق بمراهنات واشنطن على الدور الكردي. بدليل أن أسلحة أميركية نوعية وكبيرة وصلت في الآونة الأخيرة إلى قوات سورية الديمقراطية الكردية شرق الفرات والشمال. وهذا إعلان تجديد وثقة أميركيين بالدور الكردي السوري والإقليمي، الذي يؤدي إلى تعزيز واستمرار وتدعيم الجيوبولتيك الأميركي في الشرق الأوسط.
هذه هي الأسباب التي تفرض على الأميركيين عرقلة تحرير إدلب بأي طريقة كانت، وإلا كيف يفسّر المتابعون جولات الجولاني على ثلاثة أرباع إدلب داعياً إلى مجابهة السوريين والروس، ومحذراً من الأتراك.. فيبدو متفائلاً وواثقاً من مقدرة قواته المزعومة على مجابهة الجيش السوري. وهو يعوّل بالطبع على الرفض الأميركي لهذا التحرير. فيستند عليه لعرض عضلات سحقتها الدولة السورية مع حلفائها على مساحة أكثر من 80 في المئة من سورية. فمَن عاود نفخها من جديد؟ هم الأميركيون بالطبع الذين يواصلون دعمهم للإرهاب منذ انطلاقته في سورية في 2012 وقبلها في أفغانستان في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
تراهن واشنطن إذاً على رفض تركي لتسهيل تقدم الجيش السوري في إدلب. وتعاود نصب المشروع الكردي الذي كان يجنح إلى التفاوض مع الدولة. لكن جرعات أوكسيجين أميركية محدودة للغاية أعادت تنشيطه في إطار المشروع الأميركي متوهماً بإمكانية حصوله على دولة كاملة شرق الفرات. وتراهن أيضاً على فبركات كيماوية تنتج عدواناً على الجيش السوري المتقدم حصراً نحو إدلب.. فبذلك تمنع تقدمه عسكرياً، وتحافظ على إدلب في عهدة «النصرة القاعدية».
ماذا الآن عن الطرف الآخر؟
الدولة السورية ليست بوارد المساومة على إدلب ولن تقبل أنصاف الحلول في موضوعها، لأنها جزء أساسي من الكيان السوري يحتله إرهاب مدان من الأمم المتحدة، ويغطي احتلالين: تركي في الشمال وأميركي في الشرق.
وسورية ليست حديثة في قراءة المعارك سياسياً. وتعرف أن قوتها المرتكزة على تحالفات إقليمية ودولية هي من القوة بحيث إنها أدت إلى تحرير القسم الأكبر من البلاد، لذلك لا تهاب معركة إدلب مع معرفتها بالحساسية الأميركية المفرطة المرتبطة بالجزع من خسارة الدور على مستوى الشرق الأوسط.
بالنسبة لروسيا تزيد أهمية إدلب في سياساتها الجيوبولتيكية عن المناطق كافة، لأنها منطقة تماس مع الأميركيين والأتراك، ويوجد فيها بضعة آلاف من المسلحين الشيشان والجمهوريات الإسلامية في روسيا والمحيط.. وعودة هؤلاء إلى بلدانهم الأصلية من شأنه تأسيس مشاريع إرهابية خطرة. أما إيران وحزب الله، فيعتبران إدلب استراتيجية لأنها تدخل في إطار تعزيز الدولة السورية حليفتها الأساسية في الشرق الأوسط منذ مرحلة الرئيس المرحوم حافظ الأسد.
فهل تسترجع سورية منطقة إدلب؟ لا شك في أن الاهتمامات الدولية والإقليمية بها تزيد الوضع تعقيداً بالإضافة إلى الكثافة السكانية الهائلة التي تحمي وجود «النصرة» في إدلب. هذا الإرهاب الذي يتخذ منها دروعاً للاختباء والاحتماء.. ولاتهام الجيش السوري بقتل المدنيين، ولأن لكل عقدة حلاً مناسباً لها، فإن الجيش السوري وحلفاءه لن يترددوا في تحرير إدلب ومجابهة أي عدوان أميركي غربي، بشكل قاسٍ هذه المرة، كما أشارت القيادة الروسية.
هذا هو الجزء الهام من معركة تحرير سورية الذي يكشف النيات الاستعمارية الأميركية للاحتلال المباشر لمنطقة الشرق الأوسط من بوابتي سورية والعراق للسيطرة على الاقتصاد والغاز.