عين العرب ـ كوباني: حرب تسمية أم حرب مياه
وليد زيتوني
جفّ آخر الينابيع الثلاثة التي كان العرب «البدو» يوردونها عام 1988 ولم يبق منها إلا التسمية. و»داعش» الوارد بجحافله ليسقي مواشيه من عين الإسلام، فاته القطار الألماني راحلاً من دون عودة، بعد أن دفن مشروعه «الاندفاع نحو الشرق»، المتمثل بشركة «كومباني» لسكة الحديد، تاركاً هيكل الحلم «الطموح» إلى التركي العثملي ثمناً لتعاون لم يؤت ثماره في الحرب العالمية الأولى. وعلى رغم أن عين العرب كوباني لم توجد على الخريطة الجغرافية قبل عام 1912 تاريخ تمركز الشركة الالمانية، إلا أن محيطها ذاخر بالآثار واللقى الآشورية الدالة على أهميتها، خصوصاً في عهد شلامنصر الثالث بأسوده المنهوبة والموزعة بين اسطنبول وفرنسا، باستثناء أسد أسود واحد حجري في متحف حلب.
الآن عين العرب كوباني ليست تسمية على رغم الضجيج الإعلامي والتفسيرات المتعددة والتحليلات الكثيرة حتى الملل حول جذور التسمية. عين العرب- كوباني هي معركة لها لون آخر وطعم آخر، يختلط فيها الحابل بالنابل. هي كوبانية «شركة» تنازع بين خارجها والداخل، بين الأصدقاء والأعداء، بين الأصدقاء والأصدقاء.هي محطة أساسية في الصراع والتلاقي بين الكرد والكرد، وبين الكرد والأتراك، وبين «داعش» و»النصرة»، وبين السعودية وقطر. كلٌ يريدها لغاية في نفس يعقوب، وكلٌ يبيعها في سوق النخاسة.
لكن الصراع الحقيقي في مكان آخر. تجد جذوره في الطمع الكردي أرضاً ومياهاً. لم تكتف تركيا بكليكية والاسكندرون، ولم تكتف بديار بكر وماردين، بل يطمح هذا العثملي المتجدد بشمال حلب وحلب، ويطمح بالفرات وسد الفرات حتى مدينة الطبقة. فالحرب المقبلة هي حرب مياه واستجرار مياه من تركيا إلى الصحراء العربية ثمناً للبترول والغاز الصحراوي. فالسيطرة على سد الفرات ومن ثم وضع اليد على دير الزور يمنح الأتراك ثروة مائية وزراعية كبيرة وآبار نفط تشكل قاعدة اقتصادية ضخمة، تجعلها امبراطورية متجددة، وهو مضمون الحلم الأردوغاني الذي زرعه داوود أوغلو في عقله. فتركيا تحاول أن تستخدم «داعش» و»النصرة» كأداتين لتنفيذ مشروعها، وهذا ما يفسر امتناع تركيا عن الدخول في التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب وإقامة منطقة عازلة أو آمنة في الشمال السوري.
غير أن حساب الحقل التركي لا يتناسب مع حساب البيدر الأميركي. فالولايات المتحدة لا تريد تركيا دولة قوية ولا تريد «داعش» و»النصرة» كأداتين لخدمة المشروع التركي. بل هي صنعتهما لمشروع آخر، مشروع تفتيتي يتناول المنطقة بما فيها تركيا. تريدهما رأس حربة في إنشاء دول طائفية لتحقيق أمن «إسرائيل» وتأمين ديمومة نهب الثروات. ومن هنا نفهم التعاطف الأميركي مع الأكراد في العراق وخلبية الضربات الموجهة إلى «داعش» في سورية. أميركا ترسم بالدم والنار حدود الدول التي تزمع إقامتها. وأميركا تتعاطى بجدية أكبر مع المنطقة العازلة الجنوبية على حدود الكيان الصهيوني المغتصب ولا تمانع إقامته، على عكس تعاطيها مع الطروحات التركية، لأن تركيا القوية باقتصادها والغنية بمياهها تجعل الكيان الصهيوني والدول الصحراوية أسرى حاجاتهم إليها.
طبعاً هذه بعض من ملامح المشاريع الجيواستراتيجية المخططة للمنطقة من قبل أعداء المنطقة وأعداء شعبها وناهبي ثرواتها. إلا أن سورية ومنظومة الممانعة الإقليمية والدولية لن تسمح لهذه المشاريع أن تتحقق على حسابها. فسورية ما زالت تملك جيشاً قادراً على إفشال هذه المخططات، وقيادة واعية لها، وشعباً لم يتوان عن دعم جيشه وقيادته. إن الأولوية الآن لتأمين العاصمتين السياسية والاقتصادية لسورية، دمشق وحلب. ومن ثم الارتداد لإسقاط أحلام المناطق العازلة بعدما أسقط مشاريع التقسيم بالسيطرة على القصير والقلمون بقطعه خط التواصل بين البادية والبحر.
عين العرب كوباني أنموذجاً للصراع يتمازج فيه الاقتصادي مع الثقافي، والسياسي مع المعنوي، والحقيقي مع التضليلي. إنها صورة لسورية الطبيعية على امتداد التاريخ.
عميد ركن متقاعد