معلمي حنا مينه.. أشهد أنك قد حييت
مهدي زلزلي
لامني بعض الأصدقاء يوماً على ما كرَّسته من الوقت القليل المتاح للقراءة، لقراءة ما يزيد على أربعين رواية لحنا مينه، قراءةً شبه متواصلة وهي كلّ ما أنجزه شيخ الرواية السوريَّة في رحلته الطويلة على الدرب غير المعبّد ، وما أهدرته في سبيل ذلك من فرص لِـ «توسيع مروحة» قراءاتي وتنويعها.
وفي الإجابة قلتُ إنَّ كلّ كتاب لم نقرأه هو خسارة، وفرصة ضائعة، وكذلك كلّ كاتب لم نتعرَّف إليه، ولكن الخسارة أكبر اذ نفوّت على أنفسنا فرصة العيش مع حنا في عالمه الجميل.
رحل «حنّانا، صانع ملاحمنا، وحكواتيّنا العزيز» بالفعل هذه المرَّة بعد أن لاحقته شائعات الموت طويلاً، الرجل الذي حمل صليبه على كتفه ستين عاماً، متمنياً الموت للخلاص من الكتابة، تلك المهنة الحزينة التي يزعم أنَّه يكرهها، ولكن روحه المجرَّحة والمدماة لم تخنه كما فعل جسده الذي أنهكه المرض، فبات يخاف ألا يموت عقاباً له على اختراقه للمألوف.. خانت الروحُ حنا فاستراح أخيراً من معاناته مع «دودة الفكر» التي أبَت أن تستريح، ورحل عن هذه الدنيا فقيراً كما أتاها، سوى أنَّ فقر الطفولة الأسود تحوّل فقراً أبيض في شيخوخته.
وقد تعرَّفت إلى حنا بفضل روايته «نهاية رجل شجاع»، أو لأعترف أنَّ الفضل يعود للمسلسل التلفزيونيّ المأخوذ عنها إخراج نجدت اسماعيل أنزور ، ولعلَّ هذا الاعتراف يبدو انتقاصاً من قيمة الرواية وتعظيماً لشأن الدراما، لولا أنَّ الفارق في الانتشار بين الكلمة المكتوبة وسواها يسلّم به حنا نفسه حين يقارن متهكّماً بين شهرة ولده الممثل سعد مينه بعد مسلسل تلفزيونيّ واحد، وشهرته هو بعد عشرات الأعوام من الكتابة الروائيَّة.
لاحقاً، مع صعود وسائل التواصل الاجتماعي، استطبتُ لعب دور «الدليل إلى الكنز» عبر نشر اقتباسات من رواياته عبر «فايسبوك»، وكنتُ ولا زلتُ أسعد كلما أخبرني صديق أنَّه قرأ رواية أو أكثر لحنّا مدفوعاً بتلك الاقتباسات وما تحمله من إغراء وتحفيز، ولعلَّ فرحتي بكلّ قارئ جديد لحنّا تفوق فرحتي بقارئ يخبرني من المقلب الآخر من العالم أنَّ كتابي الذي لم يكن ربَّما ليبصر النور لولا معلمي حنا الذي لا يعرفني – وصله وتلقفه تلقفاً حسناً.
ولا ينافس «حنا الكاتب» على مكانةٍ في قلب قارئ إلا «حنا الإنسان»، هذا الذي يطلّ برأسه في كلّ رواية من روايات «دوستويفسكي العرب»، ولكنه يطيل الإقامة في ثلاثيّته الأولى بقايا صوَر المستنقع – القطاف وهي رواية كاملة الأوصاف، وسيرة ذاتيَّة بالغة الأمانة، في آنٍ واحد، ويعود حنا إلى سيرته الذاتيَّة هذه في آخر المشوار، لينتهل منها مواربةً في «عاهرة ونصف مجنون» وصراحةً في «أشياء من ذكريات طفولتي».
وقد سافر حنا مينه وذاق مرارة الغربة كثيراً، وعاد من كلّ بلد بحكاية، فكان لبنان مسرحاً لروايته «الثلج يأتي من النافذة»، بينما دارت أحداث «حمامة زرقاء في السحب» في أحد مستشفيات لندن لتكشف لنا زيف الديمقراطيَّة الإنكليزيَّة، أمَّا ثلاثيَّة حدث في بيتاخو عروس الموجة السَّوداء – المغامرة الأخيرة فترصد واقع الصين في بداية الستينيات والخلاف الذي استحكم بين موسكو وبكين، وتحكي «فوق الجبل وتحت الثلج» عن انهيار البناء الاشتراكي في بلغاريا، و«الربيع والخريف» عن الثورة المضادَّة في المجر هنغاريا . ولعلَّ الاشتراكيَّة هي السمة الغالبة على معظم هذه الدول التي تقاسمت سنوات منفاه الطوعي، وهو الذي يقول «كنت يساريَّاً وسأبقى.. تصوَّروا ابن العالم السفليّ، العاري، الحافي، الجائع، مثلي ومثل ناسي، ثم نكون في اليمين، الذي يتغذى أطفاله بالشيكولاتة ويركبون الكاديلاك! مفارقة أليس كذلك؟».
وحتى في كتابة وصيَّته، لم يكن حنا مينه سوى الأديب الفذّ الذي نعرفه، والإنسان الشهم الذي نعرفه، وهو يطلب ألا يُذاع خبر موته في أيَّة وسيلة إعلاميَّة، وأن يُترك نعشه لأربعة أشخاص مأجورين من دائرة دفن الموتى، رافضاً البكاء والحزن واللباس الأسود وحفلات التأبين وتكرار الكلام الذي سمعه في حياته.
ولعلنا معشر عشاقه خالفنا هذه الوصية قليلاً، فالحزن على حنا ليس خياراً، والوقفة في وداعه محطة تأمليَّة نحتاجها نحن وإن زهد هو بالتأبين، ولا أظنّ أحداً من قرائه قادراً على مواصلة العيش بعيداً عنه وعن أبطاله الحاملين مثله مزية الخلود، من بدر الزرقا الذي لا ينفك يلعن «العقلاء أكثر من اللازم» والمستريحين بأقفيتهم على الأرائك والطراريح في «البحر والسفينة وهي»، إلى شكوس التي دافعت عن حبّها حتى النهاية وصولاً إلى القتل في ثنائيَّة «حارة الشحادين و«صراع امرأتين»، والخياط الذي لا ينفك يدعونا إلى ضرب الأرض «ابنة الكلب النائمة» بأقدامنا لعلها تستفيق في «الشمس في يوم غائم»، وسعيد حزوم بطل ثلاثيَّة حكاية بحَّار الدقل المرفأ البعيد الذي تخاله مستمراً في المشي على الشاطئ حتى اليوم في رحلة لا تنتهي، والأرملة الصَّالحة الموسومة بالخطيئة التي أسرت قلوب الجميع بمفاداتها وعطائها في «بقايا صوَر»، و«الرجل الشجاع» مفيد الوحش الذي نقله التلفزيون إلى كلّ بيت ليكون في المخيال الشعبي بطلاً لا يهاب الموت على صورة الفنان أيمن زيدان.
حنا الذي دأب على اكتشاف المناطق المجهولة في أدبنا، وفي طليعتها البحر والغابة والجبل، حنا «المربوط بسلك خفيّ إلى الغوطة، والمشدود بقلادة ياسمين إلى ليالي الشام الصيفيَّة الفاتنة، والحارس المؤتمن على جبل قاسيون، والمغرم بليالي بردى»، لم تكن له وصيَّة سوى انتظار الجَزْر الذي سيتحوَّل يوماً إلى مَدّ، بلا كلل، ولا ملل، ولا يأس، مهما بدا الطريق طويلاً، ونحن الذين نحبّه بنصفَيه العاقل والمجنون، لا نملك إلا أن نعاهده على ألا نيأس ولا نكون من «المصطادين من المقلاة أو المستريحين على أقفيتهم على الشاطئ بانتظار سمكة سردين تافهة».
يقول حنا: يا أبنائي.. إذا متّ يوماً، ولم تكن يداي المتمدّدتان إلى جانبي، قد عملتا ما أدعو للعمل لأجله، فلا تقبّلوهما، ولا تكرّموهما.. تكونان غير مستحقتين، وتكونون أنتم مرائين».
أقبّل يدَيك، معلمي حنا، وأشهد أنَّك قد حييت.