القامشلي تنجو من رقصة «الهويات القاتلة»
نظام مارديني
كثيرون كانوا في حالة هلع من تفكّك خريطة سورية.. وكيف أمكننا الخروج من هذا الطوفان اللاعقلاني المثير للالتباس؟ وما هي الوسائل لإعادة تكوين إنسانية إنساننا وعقلانيته؟
هنا يكمن سؤال الثقافة.. قد تكون هذه الأسئلة وغيرها محاولة لترميم نفوس المواطنين وحل إشكالية أزمة الوجود الإنساني وتحويل سورية «سوقاً» تنافسية لتفاعل الأفكار والأيديولوجيات والمشاريع السياسية والاقتصادية والفكرية والتحرّر من الموروثات الإقصائية.. وترميم حقل ثقافة المواطنية في البلاد.
الآن يحاولون التصويب والتركيز على ابقاء شمال شرق سورية خارج شرعية الدولة، لذا نرى كيف تسود الرؤية اللاعقلانية للجماعات المذهبية والاثنية، وتخلّف سردياتها السياسية والأيديولوجية لصالح خطاب وهمي ذي بنية إقصائية يسعى إلى تقويض الدولة السورية وإضعاف بنيتهما الصلبة كما حصل في مدينة القامشلي قبل أيام عندما حاولت ميليشيا الأمر الواقع بيادق الإدارة الذاتية محاولة إغلاق المدارسة الحكومية والخاصة، ولكن المدينة انتفضت تحت ظلال العلم الوطني، رافضة السلوك الميليشياوي، ووضع حدّ له.
لا يمكن مواجهة الواقع التفتيتي للمتّحد السوري، إلا بوحدة الحياة بين نسيجه القائم.. والتعاون في تقطيع أوصال الفكر الانعزالي العرقي والمذهبي كما تم تقطيع أوصال جحافل «الخليفة العثماني» وخلق اهتزازات بنيوية داخل التنظيمات الإرهابية، للحيلولة دون حصول تدهور دراماتيكي بين دمشق، وحلب، وحمص، وحماة، والسويداء، ودرعا، والقنيطرة والرقة وتدمر، ودير الزور والحسكة، في هذه اللحظة الشديدة الحساسية في المنطقة.
الكل يُقرّ بأن معركة إدلب، كما كانت معركة استرجاع درعا، ستكون معقدة جداً، لأن عودة إدلب إلى حضن الدولة يعني بداية النهاية على مستوى الديناميكية العسكرية، وإلى حد كبير على مستوى الديناميكية الإيديولوجية للفكر الإرهابي التكفيري وداعميه. وإن كان هناك من يرى أن زوال «النصرة» كما «داعش» في الظروف الهشّة، والضائعة، التي تعيشها المنطقة، قد يفضي إلى نشوء ظواهر أكثر جنوناً وأكثر همجية.. ولكن في مكان آخر.
الذين ينظّرون للتفتيت تحت مصطلحات الفيدرالية والحكم الذاتي، يدركون أن الأميركيين لا يتعاملون معهم أكثر من كونهم زجاجات كوكاكولا او علب سجائر، ما إن تستعمل حتى يلقى بها جانباً. وإذا لم تكن هذه هي حالهم الآن، فستكون هذه حالهم غداً لا محالة. وهو ما أشار إليه السفير الاميركي السابق في دمشق، روبرت فورد، الذي يعتبر الأب الروحي للحراك الذي حصل في سورية في العام 2011، وسميت زوراً بالثورة.. قال فورد «اللعبة انتهت»، وقد رسم فورد صورة قاتمة لأكراد سورية وقال «أعتقد أن ما نقوم به مع الأكراد ليس فقط غباء سياسياً، بل غير أخلاقي. الأميركيون استخدموا الأكراد لسنوات طويلة خلال حكم صدام حسين. هل تعتقد أن الأميركيين سيعاملون الاتحاد الديمقراطي و وحدات حماية الشعب بشكل مختلف عن هنري كيسنجر مع الأكراد العراقيين عندما تخلّى عنهم . بصراحة، مسؤولون أميركيون قالوا لي ذلك. الأكراد السوريون يقومون بأكبر خطأ في وضع ثقتهم بالأميركيين».
يضحكون في دمشق حين يُشار إلى محافظة الحسكة.. وكأنها قاعدة أميركية ليس للاستعمال التكتيكي فحسب، وإنما للاستعمال الاستراتيجي أيضاً؟
في نهاية الكلام نقول لمن يعنيهم الأمر إن ملف الإدارة الذاتية، يجب أن يُقفل.. وهو سيُقفل.. تكفي الرقصة الطويلة والدموية، مع… الهباء والغباء!
ولأننا في موسم التخمينات الساذج، والتحليلات الساذجة، نسأل هل يمكن أن يحدث كل هذا في مدينة القامشلي من دون أن تكون هناك سيناريوات محددة من أجل تفكيك المدينة عرقياً ومذهبياً، ربما وصولاً إلى مدن أخرى في المنطقة العراق مثلاً إذا ما أخذنا بنظرية زئيف جابوتنسكي 1923 حول التفتيت البعيد المدى للمنطقة.
لعل المقبور برنارد لويس أحد أبرز المختصّين في بنية الهلال الخصيب كان أقل أيديولوجية في مقاربته للمشهد، حين لاحظ أن هذه المنطقة هي عبارة عن شظايا قبلية ومذهبية لا يمكن لتلك الأنظمة أن تستوعبها الى ما لا نهاية.. وعلى هذا الأساس تحدّث عن نشوء دول أخرى في المنطقة، وربما تخوض حرب الألف عام بينها.
الآن، سورية تحتاج الى التضحية.. كفى بقاءها ضحية لهذا التقاطع المدمر القاتل، بين لعبة القبائل والإثنيات ولعبة الأمم.. بين لعبة الكهوف ولعبة الأرصفة.. هذا الهلال لا تبنيه طوائف ولا أعراق كـ «الهويات القاتلة» التي بشّرنا بها الكاتب أمين معلوف..!