التحوّلات الجذرية في ميزان القوى الإقليمي والعالمي…
رضا حرب
التحوّلات الجذرية في ميزان القوى الإقليمي والعالمي
بعد اتفاقية ويستفاليا في القرن السابع عشر التي أسّست لقيام الدولة الأمة الدولة القومية، ساد نظام «توازن القوى» الدبلوماسية الدولية حتى بات أحد الركائز الأساسية للواقعية السياسية في فكر مؤسّسها هانز موغنثاو.
اختلفت الآراء حول دبلوماسية توازن القوى بين المفكرين الأوروبيين والأميركيين. برأي المؤرّخ والدبلوماسي الانجليزي الن جون تايلور توازن القوى صانع للسلام «عرفت أوروبا السلام كما عرفت الحرب، وتدين لتوازن القوى على فترات السلام». جادله زميله الدبلوماسي والمؤرّخ الأميركي ادوارد ميد ايرل «ابتداءً من عام 1890 وخلال ربع قرن عاشت أوروبا والشرق الأقصى تحت «توازن قوى خطير» فكانت النتيجة انّ العالم انتقل من أزمة إلى أزمة حتى وقعت الكارثة الحرب العالمية الأولى ، ويختم «توازن القوى يمكن ان يضعنا جميعنا في المحرقة». في ورقته الشهيرة «الاتحاد الآن» اتفق الصحافي الأميركي كلارنس سترايت مع ايرل في معارضته لـ «سياسة السلام المتفجّر» حسب وصفه لنظام توازن القوى، فكتب يدعو الى قيام اتحاد فيدرالي بين الديمقراطيات شبيهاً بالولايات المتحدة بديلاً عن دبلوماسية توازن القوى.
اجمع المؤرّخون وخبراء العلاقات الدولية، مارتن وايت وكوينسي رايت وهنري كيسنجر وغيرهم، انّ نظام توازن القوى لم يحكم النظام الدولي الا نادراً. وعلق كيسنجر على تلك الفرضية «تركت نظريات توازن القوى انطباعاً بأنها الشكل الطبيعي للعلاقات الدولية. في الحقيقة، أنظمة توازن القوى نادرة في التاريخ».
على اية حال، توازن القوى يعبّر عن أهمية امتلاك الدول لـ»قوة ردع» قادرة ان تفرض نوعاً من الاستقرار بين القوى المتنافسة على مناطق النفوذ، أيّ ليس باستطاعة قوة مهما بلغت قدراتها ان تفرض إرادتها على الدول الاخرى أو أن تبتلع القوى الصغرى. لولا التوازن لما رأينا تعايشاً نووياً هندياً باكستانياً، ولولا التوازن الذي فرضه حزب الله لكان لبنان اليوم ملعباً «إسرائيلياً» يحكمه جواسيسها، ولولا التوازن الذي فرضته إيران لأشعلت السعودية والإمارات مياه الخليج نيابة عنهما وعن الولايات المتحدة «إسرائيل».
كنتيجة طبيعية لسقوط توازن القوى الدولي القائم على الثنائية القطبية تربّعت الولايات المتحدة على عرش السيادة العالمية بلا منافس. الغير طبيعي انّ القوى الكبرى لم تعمل بشكل ملحوظ او بجدية للعودة لإنشاء نظام توازن قوى جديد منظم للعلاقات الدولية ويُنسب الى عاملين أساسيين: عدم وجود تهديد أمني او اقتصادي مباشر لهم، وعدم وجود مؤشرات على انّ النظام الدولي القائم نظام فوضوي وصانع للحروب يهدّد الأمن العالمي.
كانت الحرب على يوغسلافيا عام 1998 لأسباب إنسانية وراءها تمدّد نحو حدود روسيا، وكانت الحرب الدولية بقيادة الولايات المتحدة على نظام صدام حسين عام 1991 لتحرير الكويت، إلا انّ الأجندة الخفية كانت لوضع اليد على دول الخليج العربية. لكن بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، وباسم «الحرب على الإرهاب» صنعت الولايات المتحدة حروباً لا زالت أفغانستان والعراق تعانيان من ويلاتها، ومع أول شرارة لثورات برنارد هنري ليفي المعروفة بـ «الربيع العربي» وظفت الإرهاب التكفيري الوهّابي لتدمير المنطقة وتعميم الفوضى. كلّ ما سبق أنتج خللاً في توازن القوى على مساحات واسعة، فيجب القول انه لولا الخلل في توازن القوى وعدم وجود نظام دولي منظم للعلاقات الدولية والإقليمية ما استطاعت دولة بحجم الإمارات ان تقود محوراً يضمّ دولاً بحجم السعودية ومصر والسودان، ولا تجرّأت على ارتكاب جرائم حرب. ولولا الخلل ما تجرأ الحلف الأطلسي على التمدّد الى الحدود الروسية.
«الرابح يأخذ الكلّ»…
وانطلاقاً من فهمنا لحقيقة «القرن الأميركي» يكمن تفسير الموقف التاريخي الأميركي المعارض لتوازن القوى، ليس على معادلة «المثالية مقابل الواقعية» بل على فرضية متوحّشة «الرابح يأخذ الكلّ Winner Takes All.
الحرب الأميركية «الاسرائيلية» بالوكالة على سورية، والحرب الاماراتية السعودية على اليمن استكمالاً لحروب أميركا في المنطقة، ليس من أجل تعزيز الحماية لأمن «إسرائيل» كما يدّعون او يظنّ البعض، بل من أجل سيطرة «إسرائيلية» على الشرق الأوسط وصولاً الى إيران، يُسقِط التوازن الذي فرضته حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 ويُقسّم سورية، ويُسقِط التوازن الذي فرضه حزب الله عام 2006 وبعده ويغزو الإرهاب الوهابي لبنان، ويُقسّم العراق الى دويلات، ويُهجّر فلسطينيّو الـ48 الى الأردن حتى لا يأتي يوم يصبح «محمد» رئيس وزراء لـ «إسرائيل» على حد تعبير ترامب. هكذا تقوم «إسرائيل الكبرى اليهودية العنصرية». ظنّ بعض الأغبياء من عرب الخليج انّ مشاركتهم في الحرب على محور المقاومة تجعلهم شركاء للكيان الصهيوني في المكاسب.
تحوّلات حاسمة
انتصارات محور المقاومة ومعه روسيا والصمود اليمني الأسطوري، وإجهاض مشروع المحور الشيطاني بأذرعه الخمسة الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية والإمارات والإرهاب الوهابي التكفيري في المنطقة أنتجوا مجتمعين تحوّلات حاسمة يمكن ان أدّعي أنها «عملية تصحيح للخلل في التوازنات الإقليمية والدولية».
في الإقليمية، نشهد تحوّلاً جذرياً في ميزان القوى لصالح محور المقاومة بدأت تظهر مؤشراته بقوة عام 2016 وملامحه في بدايات 2018. الحرب على سورية والعراق أنتجت مفاجآت أصابت المحور الشيطاني بصدمة، فقد جاءت النتيجة على عكس توقعاتهم وأمانيهم. الجيش السوري أصبح أقوى وأكثر خبرةً وتماسكاً مما كان عليه ويمتلك أسلحة متطورة، وحزب الله اكتسب خبرات تثير الرعب في «إسرائيل» من مجرد التفكير بتهديد أمين عام حزب الله «الجليل وما بعد الجليل»، والحشد الشعبي يثير مخاوف الحلف الشيطاني من ان يتحوّل إلى «حرس ثوري»، واليمن ينتقل من الدفاع إلى الهجوم، والكويت توجّه بوصلتها نحو الصين، ومسقط تعزز من علاقاتها الاقتصادية والسياسية والأمنية مع إيران، وقطر تعزّز من علاقاتها السياسية والتجارية مع إيران ودخلت في تحالف استراتيجي مع تركيا، وإيران باتت لاعباً وصانعاً لميزان القوى حتى قال الجنرال الحاج قاسم سليماني كلمته «فيلق القدس ندّ للقوات الأميركية»، ونتنياهو كالشحاذ يطرق أبواب موسكو يتوسّل بوتين إقناع إيران الانسحاب من سورية. والسعودية مع حليفها الإماراتي يتعرّضان لاستنزاف في قدراتهما الاقتصادية والعسكرية في اليمن.
في الدولية، تحقق المطلبين الرئيسيين للحاجة الى ردّ الاعتبار لنظام توازن القوى وهما انّ النظام الدولي القائم بات نظاماً فوضوياً وصانعاً للحروب، ويشكل تهديداً مباشراً للقوتين اللتين تنافسان الولايات المتحدة، روسيا والصين، فعادت روسيا بقوة إلى الساحة الدولية من باب سورية وشبه جزيرة القرم ويحشد قوة بحرية ضخمة في مياه شرق البحر المتوسط تحسّباً لأيّ مغامرة أميركية، وتحوّلت الصين من متفرّج يراقب ثم يقرّر إلى لاعب يتمدّد وفق استراتيجية التحوّل من قوة إقليمية كبرى الى قوة عالمية عظمى. وإيران من جهتها كما أشرت ليست قوة إقليمية كبرى فقط بل هي أيضاً لاعب وصانع لميزان القوى الدولي أيضاً. فبغض النظر عن أولويات روسيا والصين وإيران، ما نشهده اليوم من تطورات تؤكد انّ نظام القطب الواحد يتهاوى أمام التقدّم الروسي والصعود الصيني. القوى الثلاث قادرة على تشكيل «ائتلاف توازن» يفرض نظاماً دولياً جديداً.
محور المقاومة أقوى…
الولايات المتحدة تدرك أكثر من غيرها انّ العودة الى التوازن الذي كان قائماً قبل 2001 أو حتى 2011 لم يعد ممكناً لأنّ الخلل فيه سمح للقطب الواحد إشعال الحروب وتعميم الفوضى في المنطقة وعلى الحدود الروسية أوكرانيا ، والعودة إلى التوازن الذي فرضته حرب تموز 2006 بعنوانه العريض «الردع المتبادل» غير صالح، وقد قالها أمين عام حزب الله «المقاومة أقوى من إسرائيل». انتصارات الجيش العراقي والحشد الشعبي ومعهم خبراء فيلق القدس، وانتصارات الجيش السوري وحلفائه، وصمود الشعب اليمني الأسطوري أنتج توازناً جديداً يضع المحور الشيطاني أمام خيارات أحلاها مرّ:
الخيار الأول ان يستمرّ التعنّت الأميركي في التعاطي السلبي مع الأزمة السورية من خلال العمل على ثلاث مسارات: المسار الأول تأليف مسرحية جديدة في إدلب شبيهة بمسرحية الهجوم الكيماوي التي أنتجتها وأخرجتها جماعة «الخوذ البيضاء» الإرهابية عسى ان توقف تقدّم الجيش السوري. والمسار الثاني إقامة كانتون كردي يشكل خنجراً في الخاصرة التركية لا سيما في ظلّ تصاعد الخلافات الأميركية التركية حول جاسوس في لباس قسيس، والثالث اإقامة كانتون عشائري شرق سورية يشكل حاجزاً يقطع خط الاتصال البري لمحور المقاومة على ان تتحمّل الإمارات والسعودية دعمهما بالمال والسلاح والمرتزقة والإرهابيين بالشروط الأميركية. تدرك الولايات المتحدة انّ هذا المخطط غير قابل للعيش لكنه يطيل أمد الأزمة حتى الانتخابات الأميركية 2020 على الأقلّ، ويمنح الولايات المتحدة ورقة ضغط مهمة تفرض نفسها كلاعب أساسي على طاولة الحلّ السياسي.
الخيار الثاني: الاعتراف بأنّ مشروعهم في المنطقة هُزم، وعلى القوات الأميركية الانسحاب من سورية بلا قيد أو شرط، ليس وفق المقاربة الأميركية والمطالب الاسرائيلية خروج أميركي وجوده غير شرعي مقابل خروج إيراني وجوده شرعي . تحرير كلّ شبر من الأراضي السورية «حرباً او سلماً» رسالة واضحة وحاسمة من الرئيس بشار الأسد وعلى الرئيس ترامب وأذنابه في المنطقة ان يأخذوها على محمل الجدّ. إذا خرجت سلماً تحفظ ماء وجه الجبروت الأميركي وإلا ستخرج حرباً.
الخيار الثالث: بين الموعد النهائي الذي حدّده الرئيس الأميركي لدول العالم وشركاتها مقاطعة النفط الإيراني وانتخابات مجلسي الشيوخ النصفية يومان فقط. الموعد الأول في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر والثاني في يوم 6 من الشهر نفسه، هل صدفة؟ رغم مئات المليارات التي حلبها ترامب من أعراب الخليج لم تشفع له عند الناخب الأميركي، إذ تشير الاستطلاعات إلى تدنّي شعبيته بسبب سلوكه اللاأخلاقي وأسلوبه المنحطّ وكذبه على الرأي العام الأميركي وفقاً لاعترافات محاميه مايكل كوهن خصوصاً في انتهاك قوانين الحملات الانتخابية، وقد يؤدّي هذا التحوّل في مسار التحقيق إلى خسارة الجمهوريين بعض المقاعد في الانتخابات النصفية تعطي الديموقراطيين الأكثرية في الكونغرس. عزل الرئيس او دخوله وصهره السجن ستكون سابقة لكن ليس على خلفية اعترافات كوهن بل على خلفية تسلّم أموال من أبو ظبي مقابل نفوذ سياسي في واشنطن، وا=أموال من السعودية مقابل معلومات «سرية للغاية».
نتائج تفوق التصوّر…!
بين الموعدين الأول والثاني يمكن ان يقرّر المعتوه ترامب صنع معركة ليحقق نصراً يشفع له وللجمهوريين عند الناخب الأميركي، أو الذهاب إلى حرب تشعل المياه من شرق البحر المتوسط الى البحر الأحمر ومن مياه الخليج مروراً بمضيق هرمز إلى باب المندب ضرب البارجة السعودية رسالة بأنّ المضيق في مرمى صواريخ الجيش اليمني ، ومن إيران وصولاً الى اليمن وجنوب لبنان والجولان. النتيجة دمار كبير في المنطقة العرب وقودها وحطبها ويدفعون فواتيرها، لكن النتائج على المحور الشيطاني ستفوق تصوّر دعاة الحرب خصوصاً «المحمّديْن». في ظلّ توازن القوى الجديد، ايّ حرب على ايّ طرف من محور المقاومة تعني انّ المنطقة دخلت أتون الحرب الشاملة وستكون الصواريخ البالستية وغير البالستية السلاح الرئيس في الحرب. استهداف كافة القواعد الأميركية في المنطقة بلا استثناء، ودمار كبير في الكيان الصهيوني نتيجة لضربه بعشرات آلاف الصواريخ، وسقوط حكم آل خليفة النجديين في البحرين. وبما انّ السعودية والإمارات تتحمّلان القدر الأكبر من المسؤولية حتى لو اختبأتا خلف الولايات المتحدة و»إسرائيل» فعليهما تحمّل القدر الأكبر من الخسائر. استهداف محطات الكهرباء وتحلية المياه والموانئ ومنع دخول السفن المحمّلة بالمواد الغذائية، فضلاً عن استهداف الجسور وشبكات الطرق والموانئ والمناطق الاستثمارية الكبرى لإحداث دمار شامل في أبو ظبي ودبي. تدمير مصافي نفط رأس تنورة وميناء رأس تنورة وهو أكبر ميناء لشحن النفط في العالم تصدّر المملكة منه أكثر من 90 من نفطها، تكفي لانهيار الاقتصاد السعودي الذي يعاني من تهوّر ابن سلمان وانصياعه لتعليمات ابن زايد. احتمالات ان تؤدّي الحرب الى انقلاب داخلي يطيح بمحمد بن سلمان كبيرة واحتمالات ان تؤدّي الى تقسيم السعودية أكبر، وهو ما تتمناه الشعوب والدول المحبة للسلام فيسقط نصف مجلس التعاون الخليجي ويرتاح النصف الاخر.
المركز الدولي للدراسات الأمنية والجيوسياسية