أمين الذيب
لستُ أطرح بهذا السياق مسألة الاقتباس، فالانفتاح على الحضارات والثقافات هو حيوية فكرية وغنى إنساني تعكسه حركة تبادل الخبرات المعرفية التي يكتنز بها مسار التطور والتقدم عبر التاريخ، وحيث نشأت حضارة كان الشعر والفنون والعلوم يشكلون معالمها ويطبعون شخصيتها المجتمعية بطابعهم، فتحول هذا الواقع أو المفهوم الى مقياس للتمييز بين الحضارات، قوتها أو ضعفها بحسب تقدّم الفنون والعلوم كصفة ملازمة مكانتها بين الحضارات.
ليس خافياً، أن العديد من الشعراء، وقد يكونون أكثرية، تأثروا بالأدب الغربي، وتماهوا معه حتى صار في بعض الحالات جزءاً من شخصياتهم الشعرية من حيث الفكر والمفاهيم والرؤى، أنا لم أنظر يوماً الى هذا المشهد على أنه هجين. فالحرية شأن ملازم للإنسان خاصة الأديب والشاعر، ولكن ما كان يلفتني هو التنكر لقيمنا المجتمعية والحضارية، إذا لم يكن عند البعض استعداء قيم مجتمعه والترفع عنها وكأنّها شيء يسيء الى انبهاره بالتقدم الغربي وتجربته الرائدة كما يراها هو.
وكي لا يُفهم كلامي على غير محمله، أؤكد قناعتي وإدراكي أن التأثُر بالآخر صفة إنسانية عامة، لكن على أن لا تحل شخصية الآخر مكان شخصيتي، فتلغيني لمصلحتهِ وأتحول الى مُستفيض في الاقتباس بديلاً عن الاستفاضة في الإبداع والإضافة.
ظاهرة قصيدة الهايكو او شعر الهايكو، التي باتت تحتلّ حيزاً لا بأس به بين شعراء أسسوا منتديات وصفحات الكترونية وبُذلت جهود كبيرة لترجمة هذا الشعر الياباني من الإنكليزية الى العربية، مما بات ضرورياً دراسة هذه الظاهرة للوقوف على مندرجاتها الروحية والنفسية وفهم أبعادها ودلالاتها ومعطياتها وأسباب تبنيها واعتمادها كوسيلة تعبير شعرية خالية من المحُسنات اللغوية والاستعارة والتشبيه والبلاغة والإعجاز، أم هي ارتداد على اللغة والصرف والنحو لاتساع معاييرها وتشعباتها الدلالية والرمزية الغنية بالمفردات وأبعادها المعنوية وغنى مرادفاتها، أم هي انفصال بنيوي عن الحضارة والتاريخ كاعتراض على حالة التخلف والانحطاط التي تعاني منها بلادنا والانصراف عن محاولات الاستنهاض بتعبئة الفراغ دون بذل الجهد المعرفي لقيمنا ومثلنا العليا وغاياتنا الوطنية والقومية.
شهد ما يُسمّى شعر الهايكو، منذ القرن الخامس عشر حتى اليوم، تحوّلات بنيوية شكلية، وجوهرية – فلسفية، ففي القرن السادس عشر أطاح الهايكاي رينجا وهو شعر هزلي بـ الرينجا التي كانت سائدة في القرن الخامس عشر وشطبت من مفاهيمها القصيدة التي يشترك أكثر من شاعر في تركيبها، حيث ساد نمط الهايكاي الكوميدي، وهو شعر هزلي يطلق عليه إسم هايكاي رينجا ، لأنها مثل الرينجا تتكوّن من 17 أو 14 مقطعاً لفظياً، ثم انفصل عنهم شعراء الهوكو، وهو البيت الأول من الهايكاي رينجا ويتكوّن من سبعة عشر مقطعاً يسمّى الكيجو أي أن يكون البيت الأول يصف أحد فصول الطبيعة كما كانت أشعار الجاهلية عن العرب أياً كان موضوعها لا بد وأن تبدأ بوصف الطبيعة .
شكّلت ظاهرة باشو ماتشويو لقدرته البارعة على استخدام طاقة المفردة في جناس وسجع وتورية، سبقاً في مفاهيم الهايكو. وقد يعود ذلك لتأثره بالفيلسوف الصيني تشوانج تسو الذي احتقر النباهة والذكاء وأنكر المحسنات البديعية والزخارف اللفظية واستخدام الكلمة قصداً، واعتبر أن القيمة الحقيقية تكمن في الأشياء التي تبدو ظاهرياً بلا معنى أو هدف وأن الحياة وفقاً للطبيعة هي أفضل وسائل العيش.
لكن باشو ذاته عاد وانقلب على معلمه الفيلسوف الصيني تشوانج تسو حين كتب سنمدّد قائمة البلشون حين نضيف اليها قائمة التدرج، مُستنبطاً بذلك وقائع جديدة من الواقع الذي تمسك به الفيلسوف تشوانج، حيث أدرك أن المُتخيل هو إعادة صياغة الواقع، كما يرى إليها الشاعر لا تصويرها فوتوغرافياً حيث ينتفي الإبداع.
في القرن الثامن عشر، نجح الشاعر بوسون في استحضار صور تعبيرية جديدة تختلف عن صور باشو الفلسفية، كانت لبوسون تعبيرات صافية يجعل من هدوء الطبيعة خلوداً ومن وصف الواقع مثاليات، ويدخل من الوصف النظيف إلى الجوهر بمنتهى اليسر مفرداته ثرية، متنوّعة، متشعبة، تفتن الشعراء قبل القراء.
الشاعر شيكي ماسواكا تجاوز باشو متسويو، ومال للأناقة والنقاء التقني في أبياته لتصل إلى قلب القارئ ببساطة وبتعابير تتصف في الرشاقة. وقد تأثر شيكي بالثقافة الغربية فقرّر أن الوصف البليغ الموجز هو الأهم للتعبير الأدبي، لهذا امتاز أسلوبه بالكثافة والإيجاز والتركيز فانتشر بسرعة في اليابان وأحيا الهايكو من جديد.
وعندما تولى الشاعر كيوشي تكاهاما إدارة مجلة الهايكو هوتوتوحيسو التي صارت المصدر الأساسي للهايكو تميزت قصائد كيوشي بأن لا أسلوب محدّداً يميزها، فبعضها خشن الملامح، كثيف العبارة، والبعض الآخر، ناعم مُتخيّل، بعضها يهيم في الخيال، والآخر يصف الحياة اليومية، الوصف الصحيح لهايكو كيوشي هو الفوضى.
حاول البعض في عصر الميجي وعصر تايشي إدخال اللهجة العامية في الأسلوب الكلاسيكي الرصيد السامي عن لغة المحكي، وللسبب الأخير جاءت ضرورة إدخال ألفاظ تعبّر عن الأفكار المعاصرة.
آمن الشعراء أن إقحام اللهجة العامية على الهايكو في حكم المستحيل لتعامله الرقيق مع الأسلوب الكلاسيكي، إذ يقتصر على المقاطع الخمسة أو السبعة، بينما يمتدّ الأسلوب الشفهي إلى ستة أو ثمانية مقاطع.
فعلها إيبيرو نكاتسيكا وحرّر قصائد الهايكو من الحد القاطع للمقاطع السبعة عشر فأسس الهايكو الحر، واستبعد الكيجو، ثم أقر مبدأ الشك في منجزات أساتذة الهايكو كبداية للتجديد في الأساليب الشعرية الشخصية.
بعد هذه الحقبة ظهر شعراء الهتوت وجيسو تليشو الواصفين للطبيعة، العاشقين للسرمد، المكتنفين بالأسرار، بأسلوبهم الراقي الكلاسيكي، حيث ترى الجبال والبحر والسماء في كل قصيدة لهم.
وبدأ نشر الهايكو بين النساء فيما عُرف باسم أناشيد المطبخ وظهرت الشاعرات كناجو هاسيجاوا و ميدور جيو أبي و هيساجو سوجيتا وابتدعن المنظور الزائف الجامع للمشهد الخلفي والمشهد الأمامي، أي الظاهر والمكنون في المشهد الشعري.
الى أن استباح الشاعر الهوتوتو جيسوتا يشو المشهد بالرومانسية بشكل كاد يؤدي إلى أن يخرج عن طابع الهايكو ويتحوّل إلى الشكل الشعري التقليدي. ومن هنا بدأ الشاعر كيوشي تكاهاما في تحديث هذا التيار ليعود إلى وصف الطبيعة والابتعاد عن الوصف والملاحظة الصحيحة، واخترع مصطلح كياكان ساسيي ليصف الطبيعة بشكل طبيعي جاعلاً منها مبدأ أساسياً للكتابة، وظهر العهد الجديد بريادة تشيوكشى ميزوهارا 1892 ـــــ 1981، وسوجو تاكانو وسيهو أوانو 1899 ــــ 1992، وسيتشي ياما خوتشى 1901 ــــ 1983. وتخصصوا في وصف ظاهرية المشاهد. دائماً ما يصفون أشياء ينظرون إليها مباشرة، على عكس شعراء الهوتوتو جيسو تايشو الذين تخصصوا في وصف المكنون منها في الطبيعة ورأوا في الآخرين نزوعاً نحو الوصف السطحي يطابق وصف الكتب العلمية للطبيعة.
اختلف سيوتش ميزوهارا مع سيجو تاكانو وكيوتشي تاكاهاما لأن الأول رأى أن مبدأ الوصف الموضوعي للطبيعة يسطّح الهايكو. ورأى ضرورة البحث عن أسلوب يطمح إلى المطلق، وبسبب هذا الانفصال نشأت حركة شعرية جديدة لشباب الهايكو اسمها تشينكو هايكو أي الهايكو الجديد، متجهين نحو عصرنة الهايكو مستخدمين أمثلة من الأدب الغربي. وكان من أهمهم سانكي سيتو 1900 ــــ 1962 وكاكيو توميزاوا وهوساكو كوتشينوهارا 1905 ــــ 1936 وسوشو ثاكايا 1910 ـــــ 1999 وهكوسين وتاناب 1969 ـــ 1913 . وغلبت الرمزية شعر كأليو توميزاوا مستعيراً الأساليب التعبيرية الغربية لوصف الجو الكئيب القائم الذي غلب على المثقفين من معاصريه.
أردتُ من كل هذا السياق التاريخي الموجز لتحولات المفاهيم في شعر الهايكو الياباني، إلقاء الضوء على ظاهرة شعراء الهايكو العرب أكان في المغرب العربي أو المشرق، ومن خلال المواقع الالكترونية والصفحات المسمّاة هايكو، ومن خلال متابعتي لها والدخول بحوارات مبدئية مع بعضهم، تبين لي أن معظمهم لا زال ثابتاً على نظرية الفيلسوف الصيني تشوانج تسو دون النظر الى التحولات والتجاوزات التي حدثت من القرن الخامس عشر حتى اليوم.
فالظواهر الطبيعية لا يمكن أن تنفصل عن لولبية المكنون في القصيدة، وإن تقمص الانفعالات والمشاعر في بيئة مغلقة كما كان في اليابان لقرون خلت لا يتيح مناخاً شعرياً مُسقطاً على واقعنا وثقافتنا وحضارتنا، ونحن بصفتنا المعنوية كمؤسسي ملتقى الأدب الوجيز، شعر الومضة والقصة القصيرة جداً، في دول المشرق العربي والمغرب العربي، مهتمون بالحوار مع شعراء الهايكو كي نبتكر قضايانا التي تعبر عن روحيتنا وحقيقتنا الحضارية، خاصة أننا نعتبر ملتقى الأدب الوجيز حركة تجاوزية نقدية تعبيرية.
إن فلسفة الحركة التي تصبغ وجودنا هي الدافع والرافعة للخروج من الثابت الى المتحوّل، فكيف إذا كان المُقتبس عنه يواكب مسار التطوّر والتقدم الإنسانيين، فلمَ لا يكون هذا حافزاً للمُقتبِس.
إن إعادة بناء الانسان في بلادنا هي مسؤولية الشاعر قبل غيره فلا يتطوّر مجتمع الا بتطوّر فكره وقيمه وأهدافه ومثله العليا.
إنها أولاً وأخيراً دعوة مفتوحة للحوار.
ناقد وشاعر ومؤسس ملتقى الأدب الوجيز